آراء
معركة كبرى كانت مؤجلةً في فلسطين، على مدار عقود طويلة، عوضا عن كل تلك المعارك المؤقتة، والجولات العابرة، على ما فيها من خسارات مؤلمة، وأوجاع خالصة، لكن غزة لم ترد أن تكون من يستعمل الدرع أولًا، وإنما بادرت بالرمح والسيف والخنجر، وطعنت العدو في عقر الديار المحتلة، وصفعته دون حاجة للصفع، وما تفعل الكفوف في حضرة الرصاص، لكنها تقصد ثأر كل الذين لطموا خدودهم حزنا ذات ليلة جزعة، بعد الكثير من سنوات الصبر المرة، فجهّزت غزة لعدوها حتى أجهزت عليه في صباح السابع المجيد، وعجّلت ما كان يحاول العدو أن يعاجلها به بعد وقت قصير، ففازت بالضربة الأولى، وانتصرت بالضربة القاضية، وبينهما كانت الكثير من الضروب والضرائب التي لا عزاء فيها إلا بفردوس الله.
معركة أخرى في الشام كانت مؤجلة، كانت تحفها مخاطر المعقول وحسابات المنطق ومعادلات القوى، لكن غزة التي أشعلت الفتيل وأوقدت الجذوة حالت دون تأخيرها أكثر، وإن كان رجالها أعدوا لها ما أعدوا مسبقًا، فإنه لم يكن بأيديهم إعداد اليقين والتصديق والمثال العملي القريب وقرب الوحي من صدور حامليه كما كان في ذلك اليوم، فحان وقت المعركة، ولم يكن الخارجون إلى الطريق تلك الساعات بمتوقعين أنهم سيصلون أحياءً إلى ريف حلب، وعساها كانت مغامرةً أن يغادروا إدلب إلى ما بعدها، فلا تتبقى لهم لا إدلب ولا ما دونها، إذا اشتد عود الجبابرة وتمادى قصفهم وغرهم ردعهم، ولكنها قدرة الله ثم بركة الطوفان ثم عزة غزة، ملهمة أخواتها، وموزعة النصر على ما حولها، وصانعة الحدث وصنيعة الله، فغيرت الراكد وحركت الراقد.
ومن بعد معركة سوريا، بدا المشروع الصهيوني في ذروة توحشه، على حقيقته تماما، لا يمهل أحدا ليختار إمساك العصا من المنتصف، ولا الرقص على السلم، فانقسمت الدنيا بإرادة الله إلى فسطاطين، عدو فاجر في عداوته، ومعه حلفه الغربي الآثم، والعربي الخائن، وغزة ومن حذا حذوها، من الشعوب التي لا تجد ما يحملهم إلى أرض السجال، فيتولون ويتابعون ويتأثرون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون، لا من نفوسهم، ولا من أموال لها اعتبار، ولا من فلذات قلوبهم المكتوية بلوعة العجز والفقد.
وهاهو الاحتلال اليوم يفعل بالضفة ما فعل بغزة، يكرر الجريمة، ويوسع المجزرة، لتشمل الصابرين المحتسبين من أهل البلاد، العالقين بين احتلال السلطة واحتلال إسرائيل، فكأنما اجتمعت واشنطن وتل أبيب بكل ما ملكتا، على مخيمات لا يتعدى واحدها الكيلومتر مربع، يتحين المعركة التي ظنت السلطة نفسها ستؤجلها أو تلغيها حين تبيع للعدو 77٪ من أراضي فلسطين، مقابل فتات تلاحق المقاومين فيه نيابةً عن الاحتلال، فكأنما باعت مجانا فلسطين لتنال ترقيةً في السلم الوظيفي للكيان الوظيفي، وهي التي تدفع أجرةً لمن يستعملها، فتصعّد من خائنة إلى عاملة في كنف مغتصب أراضيها. وتلك كانت حقيقةً مؤجلة.
ثم اليوم يعلن نتنياهو صراحةً نقمته على الوضع في سوريا، يزمجر وينهق، ويضرب الأرض بقدميه، يقول إنه لا يريد أن يرى جنوب لبنان في جنوب سوريا، ولا يريد كذا وكذا، ويدعي الدفاع عن حقوق الدروز، ويجعل نفسه وصيا بالغطاء الناري على دولة هي عدو له الآن أكثر من أي وقت مضى، وقد سقط الطاغية المهزأ من أعلى حالاته نشوة وغرورا، فيقصف نتنياهو دمشق ودرعا والقنيطرة، ويخرج السوريون في ساحة الأمويين وشوارع حمص يتضامنون مع إخوانهم المقصوفين وينادون الدولة بالرد على العدوان.
ولا أظن المعركة ستؤجل أكثر من ذلك في سوريا، وإن طال الانتظار فلن تخلو من ضرائب وإعداد، حتى يوم قريب تحارب فيه دولة عربية كاملة رسميا لأول مرة منذ خمسين عاما ضد الاحتلال الإسرائيلي، ليحفظهم الله ويرزقنا شرف الجهاد معهم، ثم لن يُستثنى من المعارك المؤجلة المصريون ولا غيرهم من الدول التي تتأجل ثاراتها، فذلكم الزمن الواضح، حيث تصبح مسألة الوقوف على الثغور والتجند في الجبهات مستقبلا قريبا لا تاريخا، وتكون المعركة الكبرى، حيث نقاتلهم كافة كما يقاتلوننا كافة، امتدادًا للحظة الطوفان، لحظة أول رصاصة، وأول جرافة، وأول حجر يُقتلع، وأول حديد ينتزع، من الجدار.
انطلق الطوفان، وهاجت أمواجه، ولا يرجع الطوفان إلى الخلف أبدا، ولن تهدأ حركته، ولن يسكن اضطرابه، ولن تخمد ثورته، حتى يقال يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي ويغيض الماء وتستوي على الجوديّ، ويقال بعدا للقوم الظالمين.