Blog

حين تصبح القُبلةُ قُنبلةً

فبراير 24, 2025

حين تصبح القُبلةُ قُنبلةً

للكاتب: أحمد فؤاد


تابع الملايين السبت الماضي لحظات تسليم الأسرى كأنهم يتابعون ديربي كرة قدم؛ لأنهم يتطلعون لجديد المقاومة التي أبهرت العالم، ولأنهم يرون في هذه اللحظات القليلة عزة كبيرة تضمد جراح انكسارات فترات طويلة. ولكن المفاجأة أن الإبهار والموقف الذي تحدث عنه العالم هذه المرة لم يكن من الآسر، بل جاء من المأسور، في مشهد فريد من نوعه لم يرَ الأحياء مثله ولم يسمعوا عنه؛ حيث قام الأسير المحرر بتقبيل رأس أحد عناصر المقاومة على المسرح لحظة التسليم، ثم أتبعها بقبلة أخرى على رأس بطل آخر، متحمسًا ومبتسمًا بعد تهليل وتشجيع الجمهور العز الأبي، صاحب الأرض والنصر، مؤكدًا بموقفه العفوي تقديره لأولئك النفر الذين صحبوه طوال 500 يوم، ولم يرَ منهم إلا الخير والعطاء، ولو كان غير ذلك لما فعل ذلك.


إن هذا الأسير ألقى حجرًا كبيرًا في ماء الإنسانية الراكد عندهم؛ ليبرهن لهم أن الإسلام دين الرحمة والسلام، لا كما يدّعون. أكد بقبلته على رأس الملثم أن الأسير عندنا غير الأسير عندهم، أوضح لهم أننا حين نسود نعدل، وحين نملك نرقى، وحين نأسر نرفق. برهنت القبلة على قول الشاعر:

ملكنا فكان العفوُ منّا سجيةً.. فلما ملكتم سالَ بالدمِ أبطحُ


إن هذا المشهد أكد للجميع أن هؤلاء الأبطال تربوا في مدرسة بدر، نهلوا من ماء السيرة ومن معين القرآن. هذا الموقف ذكرنا بأخلاقيات المسلمين مع أسرى بدر؛ فقد أسر المسلمون يومها 70 من مشركي قريش، وقد خلّد القرآن تعاملهم الراقي معهم ومع غيرهم من الأسرى بقوله: “ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً”.

وقد قال نبيه بن وهب إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه، وقال: “استوصوا بالأسارى خيرًا”. وحكى أبو عزيز، شقيق مصعب بن عمير، أن آسريه كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصّوه بالخبز، وأكلوا التمر. لذا تجد أن كثيرًا من هؤلاء الأسرى أسلموا على فترات مختلفة قبل فتح مكة وبعدها، منهم: العباس، عقيل بن أبي طالب، نوفل بن الحارث، خالد بن هشام، عبد الله بن السائب، وهب بن عمير، سهيل بن عمرو، قيس بن السائب وغيرهم الكثير.


إن إيثار الآسر للأسير على نفسه بالطعام رغم حبه له واحتياجه إليه دليل رقي وتحضر وخلق ودين، وهذا ما توقعه الجميع وهو يشاهد شحوب أجساد القادة ونضارة الأسرى المحررين، فيخرج أغلبهم وكأنهم كانوا في نزهة بحر أو رحلة صيد، وتخرج الأسيرة وكأنها كانت في صالة جيم أو صالون تجميل، في كامل أناقتها، بملابس تدل على أن المقاومة أحضرتها لهم؛ فإطعام الأسير وكِسوته واجب فرضه الإسلام؛ فما أعظم الدين! وما أجمل رجال القسام!


نعود لقبلة الأسير على هامات الأبطال؛ لأنها دوّت في سماء العالم ونالت ردود أفعال متباينة؛ فرآها المحبون بفرحة المنتصرين الفخورين برجال القسام، ونزلت كقنبلة مدوية على رؤوس قادة العدو، لدرجة أفقدتهم بوصلة المفاوضات. فعل عفوي جنّ جنونهم، وأجّلوا تسليم الأسرى الفلسطينيين بحجة التسليم المهين لأسراهم! وأيُّ إهانةٍ هي التي تحمل أسيرًا على تقبيل رأس آسريه مبتسمًا، منشرح الصدر

هؤلاء تعجبوا لأنهم لا يعرفون الإنسانية، ولأنهم أبعد ما يكونون عن الأخلاق والرحمة، ولا يعرفون الدين حق المعرفة؛ فالإسلام جاء لأسر القلوب ونشر الخير فيها ونزع فتيل الحقد والكراهية، لا لأسر الأشخاص وإيذائهم. والأدلة كثيرة على رقي الإسلام مع الأسرى، وهناك موقف جميل لرسول الله مع سهيل بن عمرو، وكان قد أُسِر في بدر، وكان سهيل معروفًا بحُسن الخطابة، فلما أخذه المسلمون أسيرًا، رأى عمر بن الخطاب أن ينزع ثنية سهيل، لكن الرسول رفض أن يمثل بالرجل، ثم قال: “إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه”. وحدث ذلك فيما بعد؛ فإنه لما ارتدت العرب، وقف سهيل بن عمرو وخطب في أهله وعشيرته وثبّتهم على الإسلام.

ومن تعامل المسلمين الراقي مع السائب بن عبيد، دخل الإسلام بعد فداء إخوته له، وحين سئل عن ذلك قال: “حتى لا يُقال إني أسلمت جزعًا من الأسر”. فسجنه أخواله، وكان الرسول يدعو له في القنوت حتى نجا منهم وهاجر، وهو جد الإمام الشافعي.


إن التعاملَ الراقي هو الذي جعل كثيرًا من الأسرى الذين تعاملوا مع المسلمين يدخلون الإسلام، ولعل ذلك مقصد من مقاصد الأسر. ولعلنا سنرى في القريب العاجل مفاجآت من هؤلاء الذين تعاملوا مع الملثمين وقبلوا رأسهم نيابة عنا وعن الأمة التي رفعوا رأسها بثباتهم ونضالهم.

سلام على الأبطال في حربهم وسلمهم، سلام على أخلاقهم الملهمة، وعلى تعاملاتهم الراقية. سلام عليهم حتى نُقبّل رأسهم يوم النصر والتحرير، وإنه لقريب، وما ذلك على الله بعزيز.

شارك

مقالات ذات صلة