آراء

هل أنصف التاريخ المهمشين؟

فبراير 17, 2025

هل أنصف التاريخ المهمشين؟

حين نقرأ التاريخ، نجد أن صفحاته تعج بسير الملوك والقادة السياسيين، وبالحروب والانتصارات والهزائم، وكأن العالم لم يخرج تاريخه عن أوامر السلاطين أو مزاج الملوك. ولكن هل هذه هي الصورة الحقيقية للتاريخ ووقائعه؟ هل توقف الزمن حين لم يكن هناك صراع على العرش أو توسع للإمبراطوريات؟ ما نعرفه عن التاريخ ليس سوى انعكاس لما وثّقه المنتصرون السياسيون، بينما ظل الوجه الآخر، وأعني به وجه الشعوب، مهمشًا، ومطمورًا تحت ركام السرد الرسمي للدول والسياسات. 

فالتاريخ ليس فقط تاريخ القادة، بل هو قصة الإنسان وتجربته في الوجود، ابتداءً من كدحه وأحلامه، ومروراً بأفراحه الصغيرة وأحزانه المنسية، ومن الأسواق الصاخبة إلى الحقول التي لم يُسمع فيها سوى وقع الأقدام المتعبة، ومن الأحياء الفقيرة التي لم يُدون أحد أسماء ساكنيها قط، ومن الحكايات التي لم تجد طريقها إلى الرواية الرسمية للأنظمة السياسية، لكنها بقيت حية في ذاكرة الناس وضمائرهم .

 

فالقصور الملكية لم تكن مركز التاريخ الحقيقي، بل كانت الأسواق، حيث اختلطت اللغات وتبادلت الثقافات وتشكلت نواة المجتمعات. فقد كان التجار يجلبون بضائعهم من أقاصي الأرض، وحقيقة حملهم في الأفكار والقصص التي كانت تصحبهم، أما المدن والقرى فهي تنمو حيث يزدهر السوق، والقرى لجدرانها حكايا و أخبار لا تدونها الرواية الرسمية، وبينما كان القادة ينشغلون بتغيير الخرائط، كان الحرفيون في المصانع يطرقون الحديد، ويصنعون الأواني، ويحيكون الثياب، والفلاحون يحرثون الأرض، ويسقون الزرع، ويحصدون المحاصيل التي صنعت غنى الممالك. ومع ذلك، لم يذكر هؤلاء أحد من المؤرخين الذين انشغلوا بحكايا الملوك عن حكايا المهمشين.

 

تثبيت الحكم السياسي لأي نظام في الوجود لم يكن يومًا مجرد قرارات تُتخذ في القصور، ولا معاهدات تُكتب في المجالس، بل هو عملٌ طويل تُشارك فيه كل طبقات المجتمع. فمن غير الحرفي الذي يصنع أدوات الحرب والسلم؟ ومن غير الصانع الذي يبني القلاع والأسواق؟ ومن غير العامة الذين يملؤون الميادين دعمًا للحاكم العادل، أو انتفاضًا على المستبد؟ لو لم تكن الشعوب هي الركيزة، لما استطاع أعظم الحكام والسياسيين أن يُرسّخ حكمه، ولو لم يكن للناس والشعوب دور، لما احتاج الملوك إلى رضاهم.

 

فالمؤرخ الحقيقي يرى هذه الحلقات المتصلة، فلا نطالبه بالإغفال عن القائد السياسي، إنما أن يرى معه حكاية الجندي، ويُنصف الفلاح والعامل والتاجر والمعلمين والأدباء، وكل الذين كانوا سببًا في استمرار الحكم، أو في سقوطه. فالدولة ليست فقط في شخص من يجلس على العرش، بل من يمشي في شوارعها مناضلاً، ومن يكدح في حقولها، ومن يكتب في مدارسها ويعلم ويتعلم، وفي حكاية كل من يُحرك عجلة الزمن دون أن يُذكر اسمه في النصوص الرسمية. والتاريخ إن لم يكن تاريخ الشعوب، فهو ليس إلا رواية نصف الحقيقة.

شارك

مقالات ذات صلة