آراء

رجل الظلّ: أثخنهم في حياته وأكمل الطعنة بعد مماته!

فبراير 1, 2025

رجل الظلّ: أثخنهم في حياته وأكمل الطعنة بعد مماته!

أخاف سليمان عليه السلام الشياطين وهو ميتٌ، فلم تعلم الشياطينُ بخبر وفاتِه إلّا حينما دخل شيطانٌ من كوةٍ في بيت المقدس ليطّلع على سليمان عليه السلام ويجده قد خرَّ ميتاً بعد أن أكلت الأرَضَةُ عصاه التي كان يتكئ عليها. قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين}. هكذا أدركتِ الشياطينُ وفاته بعد أن ظلت سنةً كاملةً في العذاب والعملِ المهين مخافة منه، وذاك كان حال بني صهيون مع الخالد أبو خالد، محمد الضيف، الذي كان ضيفًا خفيفًا على الأمة، ثقيلاً على أعداء الله. ذكر القرطبي في تفسيره أنّ أول من بنى بيت المقدس هو نبي الله داود عليه السلام، لكنّه مات دون أن يتمّ بنائه، فأوصى سليمان عليه السلام باستكمال المهمة، فأمر سليمانُ الجن أن يُتموا بناءه وكانوا منقادينَ له.


لكن حينما دنت ساعة سليمان عليه السلام، طلب من أهله ألّا يخبروا الجن بوفاته سنةً كاملةً حتى يكمل الجن بناء بيت المقدس. كما قيل أنّ سليمان عليه السلام دعا ربه أن يُعمي الجن عن خبر موته حتى يعلم بنو البشر ويوقنون بأنّ الجن لا يعلمون الغيب، ولو كانوا كذلك لما لبثوا في العذاب المهين سنةً كاملةً. وهكذا كانت حياة أبو خالد في الظلال، خنجرًا يجهلون تحرّكاته مهما تقدّمت بهم التكنولوجيا يلوَّحُ في وجه إسرائيل، وكذلك كان مماته، في الظلال أيضًا، لكن ليكمل مسيره، ويطعن ذاك الخنجر في كبد العدوّ.

 

هذا الكلام ليس مجازًا، بعد إيهامهم أنّ الشبح فزّاعة بني صهيون مازال حيًا يرزق، أجبرهم خوفهم إلى الجلوس على طاولة المفاوضات جاثيين أمامها على الركب، فوفّى بوعده لأسرانا، وأتمّ الصفقات ونفّذها بدقة بالغة، وكلّ هذا وهو في ضيافة الله تعالى. أُعلن عن اغتياله عشرات المرات وكان في كلّ مرّة يتضح العكس حتّى بات وجوده بحدّ ذاته وكأنّها حكاية من حكايات الأساطير. حرصوا على إخفاء هويّته في برنامج ما خفي أعظم رغم كونه مستشهدًا حينها في غالب الأمر، ليعلو مكرهم على مكر أبناء التيه ويثبتوا قول الله تعالى: {يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، نعم، وهم جند الله، خير الماكرين، في الأرض. أثبتوا لنا بتماسكهم واستمرارهم الباسل رغم خسارة المؤسسين وقيادات الصفّ الأوّل أنّ ولاءهم ليس للأرض، ولا للأشخاص ولا للرّتب، بل لربّ الأرض والأشخاص والرُتب، وأنّ رسالة هؤلاء المؤسسين كانت فعلاً رسالة الحقّ في الأرض، رسالة من هم على الحقّ ظاهرين ولعدوّهم قاهرين رغم قلّة عددهم وعتادهم. وليثبتوا أيضًا أنّهم لا يبنون قادة، بل يبنون أجيالاً تحمل عقول القادة، يؤمنون بالطريق لا بسالكيه، ويسلّمون الرّاية تسليمًا كما أوصى رسولنا الكريم في غزوة مؤتة زيد بن الحارثة، فقال عليه الصلاة والسلام: {إن قُتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة}. 


وأنّ الحرّية والنضال فكرة، والفكرة لا تموت بموت من يغرس شتلاتها في نفوس أبنائها، بل وتنمو ويشتدّ عودها كلّما سُقيت بدماء قادتها ومؤسسيها. فها هم المؤسسون، أسسوا الأجيال وتوسّعوا أفقيًا لنتفاجأ بأنّ الخطط لا تؤجّل بموتهم، بل تستمرّ بالدقّة المتفق عليها لأنّ القائد يخلفه ألف قائد.

 

هناك آلاف من المجاهدين المجهولين في الأرض، والمعروفين في السماء، قدموا أعمارهم وأرواحهم وكلّ ما ملكوا بزهد في سبيل الله، وعلّ أوّلهم الملثّم الذي أرهق العدوّ بعينيه وكلماته التي ترمي وتصيب كالرصاص. فها هو قد أصبح من أكبر القيادات القديمة في كتائب القسام بعد ٢٢ عامًا كمتحدث عسكري وما يزيد عن ١٠ سنوات كمقاتل، كل هذا ولا أحد يعلم عنه سوى لون عينيه. ومن عاش وقضى في الظلال من جنود الله المجهولين في معارك غزّة لا حصر لهم، فالعبرة ليست بأن تعرف أسماءهم ووجوههم، بل أن يُرى أثرهم على الأرض واقعًا.

شارك

مقالات ذات صلة