سياسة

على من تطلق ميليشيا العرجاني الرصاصة الأولى؟

يناير 30, 2025

على من تطلق ميليشيا العرجاني الرصاصة الأولى؟

صورة مخيفة ٢٠٠٧

لن أنسى أبدا هذه الصورة، كانت أقصوصة في جريدة كان فيها العرجاني واثنان من رفاقه طرداء لعدالة دولة مبارك. بعدما قُتل أخوه هدد بالويل للضباط والحكومة وكل من يفرم سيناء ويطويها للتجرؤ على فلتان النمر من القفص. ضجت القبائل الثلاث السواركة والترابين والرميلات بالإهمال والإقصاء والاستبعاد والترصد والحرمان، من أي تنمية تحيي شبه الجزيرة بخاصة رفح والعريش والشيخ زويد.


ضجت قبائل الترابين والرميلات والسواركة. واستجارت! بعد فروغ البال ببال! كل يوم حملات وكل ساعة تفتيش! واندلع الشرر. استهدف الأمنُ ثلاثتهم العرجاني ولافي والدلح! وحكم بالسجن على إبراهيم العرجاني. ثم حدث مشهد لا أنساه وقصصت قصاصته واحتفظت بها عمرا من الصحافة الورقية المصرية وكنت أراجع النظر فيها خلف نظارتي السميكة المشبعة بالبخار في برد لندن الذي لا يتذكر أحدا.. رفعت رأسي للتاريخ.. كان العام ٢٠٠٧ والاعتصام لقبيلة الرميلات، وكانت الصورة للشاب نفسه” إبراهيم العرجاني“ حانقا كالنمر المحبوس على السياج بين مصر وأرض العدو إسرائيل.. يرتدي ما بدا في صورة الجريدة الفقيرة زيَّ الجيش الإسرائيلي ويجاهر صائحا بطلب اللجوء ضمن احتجاجات قبائل شمال سيناء على استبعادهم من كل الخريطة الهوياتية لمصر الثقافية والتنموية بالكامل! لن أنسى ما حييت تلك النظرة في صورة بالطباعة في سنة ساءت الطباعة في الصحف وضاعت الملامح! لم أر في عينيه سوى ذئب بلا وطن… كانت صورة مخيفة.

 

قطع ثان ٢٠٢٥

سيارات مصفحة تلتهم الأسفلت وتُولِعُ الشرر. على متنها أفراد أعرف نظراتهم جيدا؛ شاهدتهم في السودان وليبيا وسوريا والعراق واليمن.. ميليشيا! هكذا تماما تستعرض الميليشيا القوة، تخرج فوهات أسلحتهم؛ كالبنادق الآلية قصيرة إلى متوسطة المدى الخفيفة إلى المحمولة على الكتف. ابن إبراهيم العرجاني وميليشياه؛ تتبعت أبا هذا الرجل صحفيا في سنواتي الصحفية الأولى. بالنسبة لشغفي بالنماذج المسلحة المركبة في كل بلد، كلُّ شخص فيها حكاية من ورائه حكايات كان لافتا جدا للنظر. بين ملايين الشخوص الذين يخفيهم ويميزهم الضجيج، كان هذا السيناوي ابناً للقبيلة الكبيرة وجها من ثلاثة: إبراهيم العرجاني وسالم لافي وموسى الدلح. ثلاثتهم أبناء الترابين.

 

لماذا تحتاج دولة ذاتُ سيادة بقدر مصر إلى ميليشيا؟

سؤال وجيه للغاية. في دراسة الحرب، الميليشيات نوعان، نوع مع الدولة ونوع ضدها. والاثنان لا ضمانة لولائهما أو عدائهما. فالميليشيا بتكوينها الأيديولوچي لاعبٌ خارج أذرع الدولة المخولة منفردة باستخدام السلاح لممارسة العنف المقنن للحفاظ على سيادتها وإنفاذ القانون. أقول لا تأمن أيُّ دولة لخلق أو استخدام أي ميليشيا (أفراد من الدولة يحملون سلاحا خارج سيطرة الدولة) لأن هؤلاء الأفراد قد يتفقون مع مُراد أو سيادة الدولة وفقا لمصالحهم المشتركة الآن. قد يختلف ذلك جزئيا أو كليا غدا أو بعد غد.


إرادة الميليشيا (أو السلاح الخاص وأعني بذلك المرتزقة غالبا من خارج الدولة أو شركات الأمن الخاص؛ ما نطلق عليه السلاح الخاص أمرٌ مغايرٌ لأنه يُدفع له ليحمِيَ أو يقتل؛ من ثَمّ المعادلة أبسط لو أعطيته دولارا سيقتل الشخص (س)، لو أعطاه عشرة سيقتلك أنت). في حالة ميليشيا العرجاني التي استعرضت القوة بالسلاح في موكب في القاهرة – عاصمة الدولة ومعقل الجيش ووزارة الدفاع، يعني أن ميليشيا العرجاني أصبحت ذراعا غيرَ رسمي أو بتعريف أكاديمي وواقعيٍ بحت” ميليشيا لحماية النظام وليس”الدولة“ وشتان بين الأمرين.

 

احتكار وإيكال العنف 

قصتهم العجيبة المتشابهة جدا مع قصص أبناء الميليشيات الموالية لأي دولة في دول كثيرة عملت فيها وغطيتها، وحاورت فيها أفرادا مثلهم تصل غالبا لتطورين يُبنى عليهما:

  • لا بد من عقد صفقة ما في وقت ما. هاهنا بدأ من ٢٠٠٨ غالبا عقَدَْتها معهم إما المخابرات أو المخابرات الحربية نيابة عن المؤسسة العسكرية بالحصول على الأمان وتجميد القضايا ضدهم في مقابل مساعدة الأمن أو الجيش كوسطاء للمهربين أو المتطرفين دينيا بحكم معرفتهم بأبناء القبائل وشيوخها.وقد حدث. حتى وقع ما لم يحسب أحد له حسابا.

  • قتلت قوات الأمن أحمد العرجاني شقيق إبراهيم الأصغر واثنين معه، وحاولوا تبرير الأمر وأخفقوا. بل واكتُشفت الجثث في مستودع للقمامة. تفاقمت الأمور للحد الذي أعلنت الشرطة في الصحف المستقلة عن اختطاف القبائل عددا من عشرات قوات الشرطة ثم إطلاق سراحهم. ساعتها أُعدت خطة محكمة بخطف الثلاثة. طلبت رُتبٌ كبرى في وزارة الداخلية حضور العرجاني ولافي والدلح للتفاهم. قبض على الاثنين  العرجاني والدلح باستثناء لافي، الذي اختطف لاحقا في ٢٠٠٩.

في ٢٠١٠ قبل ثورة يناير هربت القبيلة سالم لافي من السجن بحيلة قانونية تضمن هروبه من عربة الترحيلات في الطريق من الاسماعيلية إلى العريش (التفصيلة في تحقيق أجرته مدى مصر).

فتحت أبواب الجحيم على أبناء القبائل الثلاثة، وبالمقابل تشجع أبناء القبائل بتصدير صورة أسطورية عن أبطالهم الثلاثة الذين لم تَكسِر شوكتهم ولا حتى المخابرات الحربية، وتزعم سالم لافي نهج البلاغة في التفاوض عن مطالب القبائل الثلاث والرجال الثلاث. في ٢٠١٠ لم يكد يُفرج عن العرجاني لتؤيد محكمةٌ أخرى حكما غيابيا بالسجن المؤبد على سالم لافي  وستة آخرون ليفهم العرجاني وزملاؤه أنها كانت الخديعة الكبرى بالوثوق في المخابرات الحربية والأمن، لتبدأ قصة العرجاني الحقيقية. لن يكون العرجاني أبدا مرشدا ولا وسيطا ولا ذراعا؛ سيكون من حكام لا الجزيرة وحدها، وإنما الدولة، بأي ثمن.

 

ثورة ٢٥ يناير وحلم العرجاني بالجمهورية الجديدة

بين طرفة عين وأخرى في نهاية ٢٠١٠ تغير تماما سلوك إبراهيم العرجاني، توقف عن لعب دور المطارد. بدأ في عمليات البناء والتشييد “بصفقة ما“، توقفت مطاردة السلطات سواء المخابرات الحربية أو الأمن في سيناء له واكتفوا باللافي والدلح. بل اختُلقت ضدهم معركة مرهقة بطلها حسن راتب رجل الدولة الوازن في الاستثمار في شمال الجزيرة وانزلق إلى الفخ الدلح ولافي، وابتعد عن المعركة تماما العرجاني رغم تاريخ متقلب له شخصيا مع راتب.


أسس العرجاني شركة بجهود تبدو ”عصامية“ أولى شركاته في آخر أيام مبارك ٢٠١٠ ”أبناء سيناء للتشييد والبناء“ ثم ”السبع جبال“ في العام نفسه وبالطبع أصبح أسطول شركاته اليوم بحاجة لجيش نظامي يحميه، طبعا في صورة ميليشياوية ”مدججة“، ولا تنسوا هذه الكلمة.

 

عام الإخوان وعام ”العشيرة“

تطور عدوان إسرائيلي ما، على الأرجح بتواطؤ إقليمي في عام الإخوان أفضى إلى عقد لإعادة إعمار غزة وصل ليد قطر، في ٣٠١٣  تعاقدت شركة المقاولون العرب على جزء من العقد، مع شركتين إحداهما كانت ل“شركة أبناء سيناء“ للعرجاني. كان لترتيب العرجاني نحو الجمهورية الجديدة والدولة العميقة خطوات ثابتة، حتى وسنة الإسلام السياسي تحت وهم الحكم و“ التآلف والموالسة“ مع الدولة العميقة في أحلام الإخوان الوردية. أثار احتكار العرجاني بالصفقة بعض الضغائن لكنها مرت.


في تحقيق موثق لمدى مصر استخلص الزملاء أن دراما ما بعد الإخوان كانت لحظة محورية في تصعيد العرجاني لسببين أوجزاها في:

  • استحوذت ”أبناء سيناء“ حصرا على النقل والشحن إلى غزة ورفح وإعادة الإعمار منذ إغلاق معبر رفح ٢٠١٤.
  • لمع العرجاني في لقاء للسيسي بمشايخ القبائل ٢٠١٤ قدم فيها العرجاني تصورا لمشروعات بشمال الجزيرة تابع بعده رحلة صعود بصك المرحلة.

 

تنظيم ولاية سيناء و“اتحاد القبائل“

أنصار بيت المقدس وحربه الضروس على الجيش المصري وفي مناطق حساسة من حيث بنود اتفاقية ١٩٧٩ بين مصر وإسرائيل ودرجة التسلح المسموح للجيش المصري باستخدامه فيها، فضلا عن مناطق قوات حفظ السلام وقد كتبت عنه مقالا مطولا في نوفمبر الفائت. كانت الأزمة الأساسية وهي نمط لا ينكسر أبدا بين مهاجم يأتيك في منطقة تضاريسية صحراوية جبلية يحفظها عن ظهر قلب، ويهاجمك هجمات نوعية ثم يختفي كالسراب. أنه يبقى حتما في موقع أقوى، وتكتيكيا أمامك ثلاثة تحركات لا رابع لهم:


  • إما أن تبيد المنطقة بأكملها بأسلحة محرمة دوليا.
  • إما أن تستعد لحرب تقليدية في منطقة وعرة لن تدخل إليها الآليات الثقيلة ولا يقاتل فيها إلا مقاتلو الكوماندوز المدربون على هذه الطبيعة التضاريسية تحديدا وفي الظلام وبأسلحة محمولة على الكتف وبغطاء جوي صامت بلا أزيز وعلى مسافة مرتفعة ومزودة بالرؤية الليلية وهي طبعا محظورة في المناطق الحدودية المصرية خصوصا في شمال سيناء بسبب بنود الاتفاقية بين مصر وإسرائيل ١٩٧٩.
  • أو تجند من القبائل باتفاق واضح (اتفاق عشائري دون تجنيد مرشدين) مقاتلين من ”بعض“ وليس القبيلة باسمها يعينوك مقابل  منافع كحيازة الأرض وحق العودة وهو ما اتفق عليه بالفعل ومازال لم يُحلّ حتى اللحظة.
  • تفريغ مثلث شمال سيناء تماما لاستظهار العناصر الجهادية وهو أيضا ما حدث في رفح – العريش – الشيخ زويد. حتى الآن ومع تفريغ المنطقة سكانيا وتطهير المنطقة من عناصر ولاية سيناء لم تحصل القبائل على حق العودة والأمر أنهم يعيشون في الشتات في المحافظات بحري وقبلي (وبينهم لا شك خلايا نائمة أو ناقمة).


حادثان مريبان

في ٢٠١٧ قتل سالم لافي في هجوم على قرية البرث معقل اتحاد قبائل سيناء المتصالح أخيرا مع القوات المسلحة والمخابرات الحربية بعد تفريغ مثلث شمال سيناء، بعده بشهرين قتل ضابط توجيهه العقيد أحمد المنسي، ثم أعلن الدلح الاعتزال في راس سدر حتى توفي” فجأة“ في سبتمبر ٢٠٢٢. بقيت الساحة ممهدة للعرجاني وحده. وتغير اسمه من ”ابن قبيلة الترابين“ ”لرئيس اتحاد قبائل سيناء“

 

”الجيش الرديف“

يوجد بالقرار الجمهوري المنشور في قانون ٥٥ لسنة ١٩٦٨ بند عن جيش رديف تحت اسم : “منظمات الدفاع الشعبي“. أتوقف هنا عند استدعاء القرار الجمهوري هذا القانون الخاص ل ”الدفاع الشعبي“ في ٢٠١٤.  وأتساءل سؤالا مشروعا عن كنه هذا ”الدفاع الشعبي“. ما دوره؟ ماذا عن حدوده؟ بالبداهة فحتى لو كانت هذه ”ميليشيا“ تأتمر بأمر القوات المسلحة أو مخابراتها العسكرية، لو خرجت اتجاها أو عتادا أو هيبة عن هذا السياق هددت سيادة الدولة. إذن توكل الدولة لجهات غير رسمية وغير نظامية وحاملة للسلاح من خارج المؤسسة العسكرية بعض مهامها. بهذا النص وحده تعلن المؤسسة العسكرية الاعتراف بميليشيا قد تهدد سيادة ”الدولة“ بحمل سلاح غير رسمي ”ميري“. اليوم معها وغدا عليها.

 

هل احتاجت مصر  في حربها على تنظيم ولاية سيناء فعلا لميليشيا رديفة؟ نعم للأسف

أعلنت الدولة في بياناتها صوتا وصورة وعلى صفحاتها على مواقع التواصل منذ بدء العملية في ٢٠١٢ حتى أوجها ٢٠١٤ عن ضبط ٣٠٩ عنصر راديكالي من بينهم ١٣٤ فردا خلال شهر واحد، و٣٦ قطعة من السلاح الثقيل وصواريخ مضادة للطائرات ورشاشات وقاذفات RPG. كما أعلنت القوات المسلحة المصرية عن ضبط ٣٥٧ دانة مدفع وخزانات لأسلحة ثقيلة و٦٧٨ من أجهزة معدات عبوات ناسفة وعشرة أطنان من مواد شديدة التفجير TNT وعربات ومدمرات جاوزت ٢٠٣ عربة مجهزة بأسلحة ثقيلة (في ضبطية واحدة)! وتدمير سبعة مخازن أسلحة بمحتوياتها. حتى المواد الأساسية الطحين البودرة لذخائر صواريخ محلية الصنع في قرى المهدية -التومة – الظهير – الجورة – الزوارعة – الفتات – جريعة – المقضبة – المقاطعة – السادات – السدود – الطايرة – جزر أبو رعد – المدفونة الجنوبية – أبو طويلة – الطويل – الأمل، إلى جانب قرى ” المدفونة الشمالية – نجع شبانة. الأثقل كان كسر المنوال المخابراتي في عهد مبارك بالتغاضي عن وجود أنفاق الإمداد لقطاع غزة المحاصر وفصائل المقاومة، بإعلان تدمير ١٥٤ نفقا على الحدود مع قطاع غزة و١٠٨ بيارة وقود بسعة ٤ ملايين لتر من السولار.

 

هذا دليل دامغ من الدولة في بياناتها الرسمية على أن تنظيم ولاية سيناء كان لديه من السلاح ما يكفي لتشكيل وحدة عسكرية كاملة تخوض حربا بأسلحة ثقيلة. فقدت “الدولة” “السيادة” في هذه اللحظة التي أعلنت فيها ذلك. كان تشكيل ميليشيا رديفة الحل الوحيد لاجتثاث التنظيم، ففقدت بذلك الدولة السيادة مرة أخرى. والآن بهذه الاستعراضات بالسلاح لأفراد ميليشيا لها كل هذه السطوة، تفقد الدولة سيادتها للمرة الثالثة لميليشيا تستعرض بالسلاح تحت عين الجيش ووزارة الدفاع في قلب عاصمة مصر.

 

هل يهدد العرجاني بميليشياته  النظام الذي يحميه؟

على من سيرفع العرجاني سلاحه أولا؟ وأخيرا؟ كيف لمصر أن يكون لها جيش رديف؟ وكيف ترضى المؤسسة العسكرية والجيش العقائدي الملتهي في الربح والمشاريع أن تجوب القاهرة ميليشيات تحمل السلاح وقد رفعته مرات في أوجه رجاله ذات يوم لم تغب ذكراه بعد! كيف تأمن لذئب قتلت أخاه مرة ثم استدار لك فأوليته ظهرك؟

شارك

مقالات ذات صلة