سياسة
كيف أدارت المؤسسة العسكرية العنف في شمال سيناء في معركتها الضروس مع ”ولاية سيناء/أنصار بيت المقدس“؟ لماذا تحالفت المؤسسة العسكرية المصرية مع ميليشيات العرجاني في سيناء؟ كيف اجتُثّ الجهاد الراديكالي من أبناء القبائل المنضوية تحت التنظيم؟ هل إنشاء جيش رديف (العرجاني) يهدف لحماية النظام؟ أو لترتيب ربما يخص سيناء وتفريغ القضية الفلسطينية؟ وهل كانت القوات المسلحة نفسها؟ أم المخابرات الحربية؟ أم رئاسة الدولة؟ سؤال أشرت لطرحه في الجزء الثاني عن السلطة المطلقة للمؤسسة ماليا وسياسيا وبين العقيدة والربح في الجزء الأول من سلسلة الكتابة عن المؤسسة العسكرية وتغول دورها بما أوحى بعسكرة مصر.
لسيناء في الضمير الجمعي المصري مكانة خاصة جدا. حروب مصر وإسرائيل المتعاقبة خاصة حربيّ ١٩٦٧، و١٩٧٣ كانت كلها علامات فارقة محورها سيناء تَختبر في كل مرة جهوزيةَ القوات المسلحة المصرية. كان انهيار سلاح الطيران المصري في ١٩٦٧على مدارجه ومحاكمات الطيران الكارتونية جرحا غائرا ترك ندبة لا تندمل لا في العقل الشعبي ولا السجل العسكري لصف ضباط الجيش من المقاتلين بمن فيهم رتب الصفوة.
اليوم أكتب عن تحدي احتكار ”الدولة“ للعنف في سيناء وتثبيت السيادة. تحدٍ كبير واجهته المؤسسة العسكرية والقوات المسلحة وقوات الأمن الرسمي في مجابهة خصم ”أنصار بيت المقدس/ ولاية سيناء“ في شمال سيناء ٢٠١٣-٢٠١٧ الذي سعى باستماتة لتمكين “ولاية سيناء“ من سحب العنف من الدولة وإيكاله لنفسه وإعلان ولاية تحت تنظيم الدولة في استئثار التنظيم المسلح بضم جهاديين من سيناء لنزع سيادة الدولة كاملة في شمال سيناء (الشيخ زويد).
اختصاصا هذا المقال يُكتب بمنهجية بحثية، إذ يستدل بعدة مصادر مستقلة ومنشورات المؤسسات المصرية الرسمية ذاتها، لأنه كما قد يتفضل معظم حضراتكم بالعلم فإن قانونا جديدا استُحدث في ٢٠١٥ تحت اسم قانون مكافحة الإرهاب رقم ٩٤ لسنة ٢٠١٥ وهو سيء السمعة لإساءة استخدامه ضد المعارضين السياسيين ولكل من توجه له الاتهامات الواهية المعلبة لخصومة مع السلطة بشكل عام، ويضع يد التجبر الثقيلة على كل من يدرس، أو يكتب، أو يحاضر أو حتى يعلن نية البحث في ملف سيناء خاصة. لا نغفل عن القانون ب ”حالة الطواريء“ بمنطقة سيناء المعلنة منذ عام ١٩٦٥.
السؤال البديهي، هو لماذا؟ ماذا يحدث في سيناء تحديدا يخيف ويستوجب تعتيما وتهديدا لكل من يحاول فتح الملف ودراسة الحالة؟
القوات المسلحة و احتكار العنف
أولا أطلع حضراتكم على منشور رئاسي رسمي يقترح انفرادا حصريا للمؤسسة العسكرية المصرية بالقرار في ميزانيتها في قرار رئيس الجمهورية بالقانون ٢١ لسنة ٢٠١٤ يوم ٢٥ فبراير ٢٠١٤ بتوقيع الرئيس المؤقت عدلي منصور. في هذا القانون نصا ”يكون للقوات المسلحة موازنة مستقلة تدرج رقما واحدا في الموازنة العامة. و“عند“ مناقشة مجلس الدفاع الوطني موازنة القوات المسلحة ينضم إلى المجلس كل من رئيس هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة، ورئيسان اثنان للجنتي الخطة والموازنة والدفاع والأمن القومي بمجلسي النواب، ويكون لهم صوت معدود“. يعني ذلك أن هذه ”الرقابة التي تناقش ميزانية القوات المسلحة ”المستقلة“ تلتئم ”عند“ المناقشة. كل المراقبون إما من المؤسسة أو أجنحتها في البرلمان. يعني ”ميزانية خاصة“ بلا رقابة“.
كذلك يوجد بالقرار الجمهوري المنشور نفسه بند بالعودة لقانون ٥٥ لسنة ١٩٦٨ عن جيش رديف تحت اسم : “منظمات الدفاع الشعبي“. أتوقف هنا عند استدعاء القرار الجمهوري هذا القانون الخاص ل ”الدفاع الشعبي“ في ٢٠١٤. وأتساءل سؤالا مشروعا عن كنه هذا ”الدفاع الشعبي“. ما دوره؟ ماذا عن حدوده؟ بالبداهة فحتى لو كانت هذه ”ميليشيا“ تأتمر بأمر القوات المسلحة أو مخابراتها العسكرية، لو خرجت اتجاها أو عتادا أو هيبة عن هذا السياق هددت سيادة الدولة. إذن توكل الدولة لجهات غير رسمية وغير نظامية وحاملة للسلاح من خارج المؤسسة العسكرية بعض مهامها. بهذا النص وحده تعلن المؤسسة العسكرية الاعتراف بميليشيا قد تهدد سيادة ”الدولة“ بحمل سلاح غير رسمي ”ميري“. اليوم معها وغدا عليها.
بداية تحدي الدولة في بقعة شبه الجزيرة شديدة الخصوصية باعتبارها بوابة مصر ومدخلها الشرقي كانت لما هاجمت القوات الأمنية قبائل سيناء بسبب تفجيرات نٌفذت في طابا سنة ٢٠٠٤ في جنوب سيناء. الحل الأمني كان مهولا وثقيل اليد. أجج ذلك الأهالي على السلطة آنذاك ولسنوات، وتضررت كثيرا القبائل الثلاث الأساسية في المنطقة: السواركة والترابين والرميلات. وصل الأمر في ٢٠٠٧ لاعتصام على الحدود بمباركة من شيوخ القبائل. وتردد أنه بعد مقتل أحمد العرجاني شقيق إبراهيم العرجاني في إحدى عمليات الأمن هدد العرجاني بالانضمام للجيش الإسرائيلي.
سيناء المَظلَمة
الأصل في مشاكل سيناء أمنيا هو تهميشها اجتماعيا وسياسيا، وانصراف المتاح من موارد الموازنة العامة عن شبه الجزيرة، وتسيير الأمور بمداهنة شيوخ القبائل وممارسة الضغط أحيانا أو حتى حملات أمنية بدأت في عصر مبارك، تحت مظلة المخابرات العامة ثم العسكرية حتى احتل رئاسة المخابرات العسكرية عبد الفتاح السيسي. قبل رئاسة السيسي، سيناء استثنيت كليا تقريبا من العمران المؤسسي والمشاريع الربحية للمؤسسة العسكرية لحقب وليس لحقبة واحدة خلت، وهذا للإنصاف وتوخي الموضوعية. سيناء منذ عشرات السنين خارج المنظومة الرسمية للمؤسسة وبيروقراطية الدولة، لم تتمتع بتمثيل سياسي حقيقي في السلطات الثلاث. استبعدت تماما حتى وقت قريب جدا من حقوق امتلاك أو حيازة أهلها أراضيهم. حتى إنها استُثنت بشكل كبير من قطاع السياحة الرسمي.
يتعين على القارئ متفضلا أن يفرق بين ما يراه من اهتمام وإحياء لمنتجعات ومدن وأنشطة سياحية بالبحر الأحمر وبين سيناء وتحديدا شمالها. الحرمان من فرص الاستثمار والعوائد الاقتصادية والعمرانية المشروعة، فتح الباب أمام ازدياد الأنشطة غير الشرعية من التهريب والاتجار بالمواد المخدرة، وتهريب السلع بأسعار مضاعفة إلى سكان غزة تحت الحصار وقطع الطرق وغيرها. جابهت الدولة ذلك بمنتهى العنف في حقب مختلقة.
الاستبعاد المنهجي ضد سيناء كان العامل المساعد في إزكاء الاستئساد من قبل الجماعات الجهادية سواء القبلية في سيناء أو العناصر الواردة من الخارج بعد شباب القبائل بتنظيم التوحيد والجهاد التكفيري والمسلح. شكل شباب القبائل تنظيم أنصار بيت المقدس، حتى تغير ل ” تنظيم ولاية سيناء“. امتزاج بعض أبناء القبائل الكبرى في سيناء منذ التوحيد والجهاد حتى استأثر تنظيم الدولة الإسلامية بالموصل في العراق والرقة في سورية في استراتيجية إقامة دولة الخلافة في العالم (راجع مؤلف نظرية التوحش لأبي بكر الناجي في المرحلة الأخيرة من استراتيجية تنظيم الدولة). أرخ باحثون مصريون بارزون للجهاد الراديكالي في شبه الجزيرة، أقرأ من بينهم لإسماعيل الاسكندراني والدكتور عمر عاشور وبعض الأوراق البحثية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية. ذكر المصادر لغاية هنا، فهو لمضاهاة المنظورين الأمنيين لسرديتيّ الدولة بشيء من التحرر عنها والراديكاليين من جعبة القبائل بشكل يدرسهم بموضوعية.
انتفاضة يناير ”الصحوة“
بدأ منذ انتفاضة يناير ٢٠١١ التجرؤ على القبضة الأمنية على شبه الجزيرة تحت مخابرات مبارك. نما العنف المسلح ضد ”الدولة“ آنذاك من عناصر قبلية وأخرى من خارج القطر المصري، لا يمكن التأسيس للكتابة عن سيناء عسكريا دون قراءة السياق الزمني والمحلي لشبه الجزيرة. عناصر هذه الحرب الضروس التي خاضتها المؤسسة العسكرية كانت الميليشيات الجهادية، وقبائل السيناوية، والدولة ممثلة في جيشها وقواتها الرديفة. هذه المعادلة ليست بعيدة أو منفصلة عن إسرائيل والقوات متعددة الجنسيات العاملة بموجب بنود اتفاقية ”السلام” بين مصر وإسرائيل في ١٩٧٩.
مهد هذا التهميش لاستيلاد الجهاد الراديكالي – وهو ديدن تكتيك هذه الجماعات في الاستقطاب والتجنيد. استقطاب شباب القبائل وتدريبهم ينشط عادة في غياب سيادة الدولة كليا أو جزئيا كما غياب احتكارها لأدوات العنف. شهدت سيناء أحداثا كبرى تقريبا في كل حقبة وتحت كل سلطة. أدرس أثر احتكار وعدم احتكار الدولة للعنف من خلال دراسة سيناء كحالة في حقب مختلفة، لأن جهوزية المؤسسة العسكرية اختلف في التعامل مع كل مرحلة ومع كل سلاح خارج سطوتها في سيناء. السبب الصادق لحمل عدد من أبناء القبائل السلاح ضد الدولة هو ظلم شبه الجزيرة، على الرغم من شديد خطورتها كمدخل أمني هش في ظل اتفاقية ”السلام“ بين مصر وإسرائيل، حرم مصر من حمايات دفاعية أساسية كتحجيم صنوف السلاح المسموح بحملها في المنطقة التي تنتشر فيها ”قوات حفظ السلام“ الممولة أمريكيا وإسرائيليا ومصريا، والتي لم تكن في مرمى الصدام حتى عام ٢٠١٤.
بعد ٢٠١١ أسس غياب الأمن في شمال سيناء لفقدان ”الدولة“ احتكارها للعنف وأدخل إلى مصر المرتزقة ”السلاح الخاص“. بدأت “الدولة” عملية سيناء الهادفة لمطاردة ودحر تنظيم ”أنصار بيت المقدس“ الذي تحول لتنظيم ”ولاية سيناء“ بإعلان ولائه لتنظيم الدولة الإسلامية ”تنظيم الدولة في العراق والشام داعش“ لاحقا في ٢٠١٤. اتخذ الجهاد الراديكالي قواما في العريش ورفح والشيخ زويد. كان الكيان الجديد بعيدا عن يد الدولة في وقت انشغلت القاهرة بتغيرات سياسية متلاحقة. أخذ الكيان شكلا أطلق على نفسه ”أنصار بيت المقدس“ وأعلن الجهاد على إسرائيل بداية.
تدفق السلاح للتنظيم إما عبر الأنفاق بين مصر وغزة، وإما على طول سواحل البحر الأحمر أو غربا قادما عبر “السلوم” من ليبيا. المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة أعلن في بيان رسمي التالي: ”إبراز أن تراجع الأوضاع الأمنية وانتشار البؤر الإرهابية والإجرامية فى محافظة شمال سيناء يمثل تحدياً وتهديداً قوياً للأمن القومي المصري ، بل يمكن أن تمتد هذه التهديدات لتنال من الأمن الإقليمى والعالمى أيضاً“. أُعلن عن بدء تنفيذ العملية الأمنية العسكرية في السابع من أغسطس ٢٠١٢.
سيناء من التهميش ل“الولاية“
في عام ٢٠١٣ حدث تغير محوري، انخرط شباب القبائل من حملة السلاح في التدرب على القتال في التقاء مصالح ضد الدولة المصرية مع العناصر التنظيمية الآتية من الخارج في أوج تغول تنظيم الدولة في العراق والشام (داعش). أسس ذلك لدخول لاعب جديد في معادلة الأمن في سيناء – أحد أخطر مكامن التهديد للأمن القومي المصري. دخل شباب القبائل في معادلة إيكال أدوات العنف لنفسه، أولا خارج سيطرة الدولة.
استفاقت المخابرات العسكرية على تهديد حقيقي من ناحية سيناء، المدخل الشرقي للأمن القومي المصري، حينما استهدف التنظيم القوات الأمنية والعسكرية في شمال سيناء. تضاعفت العمليات في شمال سيناء بعد إقصاء حكم الإخوان المسلمين حتى إن تقريرا في مجلة الإيكونوميست وصفت هجمات التنظيم بالمركبة والطموحة. هنا لابد أن نقف لنقرأ جيدا أن الطموح كان بمحاولة هدر سيادة الدولة المصرية بالفعل باقتطاع الشيخ زويد عام ٢٠١٥ لتكون عاصمة على غرار ما حدث في الموصل في العراق والرقة في سورية وإعلان تنظيم أنصار بيت المقدس نفسه بالاسم الدال (تنظيم ولاية سيناء). انتبهت ”الدولة” للتهديد الحقيقي لا لهيبتها فحسب وإنما لسيادة التراب المصري ذاته، في أكثر بقاعها حساسية: سيناء. كان يُعتقد على نطاق واسع بين متتبعي الجهاد الراديكالي أن ما يحاول تنظيم الدولة تحقيقه مد أوصال الجهاد في مناطق أخرى خارج سيناء باتجاه الدلتا والوادي وإنشاء الدولة الإسلامية واسعة الأركان.
ثم بدأ تاريخ طويل بين السلطة والعرجان وآخرين بعد سنوات من العداء والمطاردة سيكون لهذه القصة مقال منفصل لاحقا. انتهت القصة بالإفراج عن العرجاني وتأسيس ”اتحاد شيوخ القبائل“. في ٢٠١٤ كان سعي عبد الفتاح السيسي لينصب رئيسا، رأيناه في زيارة شيوخ القبائل ورأينا العرجاني بينهم بعد سنين من المطاردة والحكم بالسجن وتفاصيل سأعرضها في المقال القادم. بعد شهرين من تولي السيسي الرئاسة ٢٠١٤ أصبح العرجاني من المحظيين المرضي عنهم، و ”أبناء القبائل“ جزء من إيكال الدولة العنف لغيرها لدحر تنظيم ولاية سيناء. بدأ عمل ”الجيش الرديف“ أو لربما – وأقول لربما- تكون الميليشيا هي ”منظمات الدفاع الشعبي“ وقد لا يكون.
جيش ”ولاية سيناء“
أعلنت الدولة منذ بدء العملية في ٢٠١٢ حتى أوجها ٢٠١٤ عن ضبط ٣٠٩ عنصر راديكالي من بينهم ١٣٤ فردا خلال شهر واحد، و٣٦ قطعة من السلاح الثقيل وصواريخ مضادة للطائرات ورشاشات وقاذفات RPG. كما أعلنت القوات المسلحة المصرية عن ضبط ٣٥٧ دانة مدفع وخزانات لأسلحة ثقيلة و٦٧٨ من أجهزة معدات عبوات ناسفة وعشرة أطنان من مواد شديدة التفجير TNT وعربات ومدمرات جاوزت ٢٠٣ عربة مجهزة بأسلحة ثقيلة (في ضبطية واحدة)! وتدمير سبعة مخازن أسلحة بمحتوياتها. حتى المواد الأساسية الطحين البودرة لذخائر صواريخ محلية الصنع في قرى المهدية -التومة – الظهير – الجورة – الزوارعة – الفتات – جريعة – المقضبة – المقاطعة – السادات – السدود – الطايرة – جزر أبو رعد – المدفونة الجنوبية – أبو طويلة – الطويل – الأمل، إلى جانب قرى ” المدفونة الشمالية – نجع شبانة. الأثقل كان كسر المنوال المخابراتي في عهد مبارك بالتغاضي عن وجود أنفاق الإمداد لقطاع غزة المحاصر وفصائل المقاومة، بإعلان تدمير ١٥٤ نفقا على الحدود مع قطاع غزة و١٠٨ بيارة وقود بسعة ٤ ملايين لتر من السولار.
هذا دليل دامغ من الدولة في بيانات رسمية على أن تنظيم ولاية سيناء كان لديه من السلاح ما يكفي لتشكيل وحدة عسكرية كاملة تخوض حربا بأسلحة ثقيلة. فقدت “الدولة” “السيادة” في هذه اللحظة.
معركة السيادة
تركزت عملية القوات المسلحة بداية في شمال سيناء، ذلك في أعقاب استهداف المنضمين للتنظيمات الجهادية قوات الأمن في العريش. تضاعفت العمليات بعد إقصاء الرئيس الراحل محمد مرسي وتنظيم الإخوان المسلمين عن الحكم. حاول مقاتلو القبائل في ٢٠١٥ الاستيلاء على مدينة الشيخ زويد ليطلقوا منها فرعا مصريا لتنظيم الدولة الإسلامية. لم تنجح مساعيُهم لأن المؤسسة العسكرية المصرية التفتت لخطورة التنظيم وإمكانية انتشاره في ربوع مصر، فبدأت بتنفيذ عملية مسحت فيها أثر الجماعات (أظن أنه كامن تحت الأرض) لكنها أخذت في طريقها السكان غير المؤدلجين في رفح والعريش والشيخ زويد، ماضاعف من عدائية القبائل للعملية الأمنية المتصاعدة دون تمييز. أظن أن العداء الشديد للسلطة كان أقوى أثرا على أبناء القبائل من اعتناق الفكر الجهادي للتنظيم والانصياع له.
لافت أيضا ما رصده الباحثون عن تفريغ بشري شبه كامل لمناطق كانت مأهولة بالكامل في محافظة شمال سيناء وأعلن الجيش المصري عن تجريم الوجود المدني فيما سماها نقاط تأمين معسكرات حرس الحدود، كما حوكم صحفيون في قضايا عدة من بينها القضية ٩٢١/٢٠١٣ للتصوير أو التدوين داخل هذه المناطق.
هل ارتكبت جرائم حرب في سيناء؟
خلصت تقارير حقوقية تُعنى بشبه جزيرة سيناء إلى أن الوضع في شمال سيناء بين ٢٠١٣ و٢٠١٤ يرقى إلى حالة النزاع المسلح غير الدولي. من ثم تنطبق عليه قواعد الحرب والاشتباك ومحاذير القانون الإنساني الدولي. كما وصف كثير من الخبراء ”تنظيم ولاية سيناء“ آنذاك بالقدرة على تشكيل هياكل هرمية وتراتبية قيادية وعملياتية متفوقة، مكنت التنظيم من ممارسة سيطرة بشكل سيادي وغير منقوص على بعض المدن والقرى في شمال سيناء.
من بين المنظمات الحقوقية التي وثقت للمعارك في سيناء ضمن منظمات مصرية ودولية كثيرة كانت هيومان رايتس ووتش عام ٢٠١٩ في تقرير عنونته ”اللي خايف على عمره يسيب سينا“. وثقت في تقريرها بناء على شهادات من المنطقة ما وصفته بانتهاكات قوات الأمن المصرية ومسلحي ”داعش“ في شمال سيناء. ورد في التقرير النص التالي: ”تدعو هيومن رايتس ووتش السلطات المصرية إلى حماية المدنيين، والوفاء بالتزاماتها بموجب قوانين الحرب الدولية، وقوانين حقوق الإنسان المحلية والدولية. على “مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة” و”اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب” أيضا إنشاء لجنة تحقيق في الانتهاكات التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع في شمال سيناء، بما فيها السلطات المصرية وقواتها المسلحة وميليشياتها غير النظامية، وجماعة “ولاية سيناء”. بالإضافة إلى ذلك، على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تعليق مساعداتها للجيش والشرطة المصريَّين، طالما أنها ترتكب انتهاكات واسعة النطاق وجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني وتتقاعس عن مُحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.“ كان رد الدولة المصرية والمؤسسة العسكرية الاستمرار في العملية لدحر التنظيم.
سيناء وقاطرة الاستدانة
حتى إن سيناء والمواجهات فيها دخلت على حسابات المساعدات الخارجية لمصر وسياسة الاقتراض التي اعتنقتها منهجيا سلطة عبد الفتاح السيسي. انخفضت معدلات النمو في عامي ٢٠١٥/٢٠١٦ وأرجع كل من صندوق النقد والبنك الدوليان بعض هذا الانخفاض لعملية القوات المسلحة والمخابرات العسكرية الواسعة والعميقة لاجتثاث الجهاد الراديكالي في شمال سيناء. كما جرى استيعاب سيناء ضمن مشروعات صندوق مصر السيادي الذي أنشيء عام ٢٠١٨ كصندوق استثمار بموجب القانون ١٧٧. كما تناقلت ما سمته السلطة ”شائعات“ ربطت بين تأسيس الصندوق السيادي وبدء بيع أصول وممتلكات الدولة عن طريق هيكلتها. تزامن ذلك مع بدء الاحتكار المعلن للمؤسسة العسكرية بالمشروعات بينها استثمارات في شمال سيناء. وفي هذا عودة للجزئين الأول والثاني لهذه السلسلة التي تفضلتم بقراءتها.
تمت الاستعانة بالمصادر التالية في بناء وتحرير التحقيق مفتوح المصادر: