آراء

فلسطين (باب النبيّ إلى الله)

يناير 24, 2025

فلسطين (باب النبيّ إلى الله)

يوافق السابع والعشرون من رجب ذكرى الإسراء والمعراج، المعجزة الأعظم بعد معجزة نزول القرآن الكريم، وحين يختار الله عز وجل موعد حدوث هذه المعجزة يوماً من أيام شهر رجب الأصبّ، فهذا يجعلنا نعظّم أكثر هذا الشهر المبارك والذي يصبّ فيه ربّنا الرحمات صبّاً صبّاً، وقد جاء في الحديث النبوي (رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي)، ولأنّه شهر الله وهو أحد الأشهر الحُرُم والتي يحرّم فيها ربنا القتال، وتتضاعف به الأجور وتعظم فيه الذنوب، اخترت هذا العنوان لهذه المقالة، (فلسطين باب النبي إلى الله)، لأنّ الله حبيبي اختار فلسطين فاتحةً للمعراج، ولو أرادَ لعرجَ به من مكانه في مكة، لكنّ الحكمة أن يكون الإسراء أولاً من مكة إلى القدس، ثم يكون العروج من القدس إلى الله، لذلك وقع في قلبي أن فلسطين بلدي الحبيب هي باب النبي إلى الله.


وإذا طرحت سؤالاً أيهما كان أعظم الإسراء أم المعراج؟

فإنَّ كليهما عظيم، لكنّ المعراج أعظم، لأنّه معراجٌ إلى سدرة المنتهى أي إلى الجناب الإلهي

وحين كانت مكة هي مبتدأ الإسراء، فقد جمع الله بفلسطين عظمة الخصوصية والبركة، فكانت القدس منتهى الإسراء وبداية العروج، فقد جعلها بوابة الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى سدرة المنتهى، وأنزل بها قرآنا يُتلى إلى يوم الدين، لذلك أتعجب كيف يتجاهل مليار ونصف مليار مسلم حول العالم خصوصية (أرض الإسراء والمعراج) ويتركون أهلها المباركين بنص القرآن والسنة، يذبحهم اليهود ليلاً نهاراً، ولا أنسى أن أقف على سبب الإسراء والمعراج، لأنّ الله عز وجل أراد أن يمسح بكفه الرحمانية الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد وفاة زوجته خديجة وعمه أبي طالب، وبعد أن أدمى أهل الطائف قدميه وفعلوا به ما فعلوا حين أراد أن يدعوهم إلى الإسلام، فتثاقلت قدماه وتعب سيدنا أبو القاسم عليه الصلاة والسلام فأكرمه الله عز وجل بتلك الرحلة، وما قد يجلي الحزن عن قلب العبد مثل أن يرى وجه ربه الكريم؟ فذلك منتهى الرجاء، وغاية العبادة.


وقد مسح الله عز وجل بيده الرحمانية على قلوب أهل غزّة في رجب 1446 وأكرمهم بإيقاف هذه الإبادة الجماعية، فوالله لو استمرت يكاد ألا يتبقى فيها بشر ولا ينجو منها حجر، ولكنه رب الإسراء والمعراج، جابر خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، فكيف لا يجبر خاطر أهل أكناف بيت المقدس؟ فسبحان من جبر قلوبنا بإيقاف الحرب في شهرٍ جبر الله به قلب نبيه، تصيبنا تجليات الإسراء والمعراج ونفحاتها، فنتعرض لها في شهر رجب العظيم، ويصعد إلى سدرة المنتهى أكثر من 50 ألف شهيد فلسطيني، ومعهم قلوب أمهاتهم وأحبتهم الذين بقوا أحياء ولم يشأ الله عز وجل أن يصعدوا إليه بعد، وأيُّ كرامةٍ أن تعرج روحك أيها الفلسطيني من الأرض التي عرج منها النبي صلى الله عليه وسلم ليرى وجه ربه؟ “ثمَّ دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى”.


(رجب الأصم) وقد سُمِي بالأصم لأن العرب لا يسمعون به قعقعة للسيوف، وقد شهدنا ذلك الآن في هذا الرجب الأصم والذي رحمنا به الله عز وجل أيما رحمة، يكفي أننا ننام ونحن غير خائفين من أن يسقط فوق رؤوسنا سقف المنزل، يقول ربنا الكريم: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير”.


صدقت يا ربي العظيم، لقد باركت حول المسجد الأقصى، نحن أهل غزة في فلسطين، لا نعرف كيف نجونا من الإبادة الجماعية بعد 470 يوماً، لقد نجونا بتلك البركة التي أنزلتها في أكناف المسجد الأقصى، فوقتنا برد الشتاء ولظى الصيف وحمم القنابل وقسوة الجوع والعطش، فلك الحمد والمنّة، يختار ربنا عز وجل أن تبدأ رحلة الإسراء والمعراج ليلاً، وذلك لخصوصية الليل في العبادة، لذلك كان قيام الليل عظيما عند الله ولذلك ينزل الله عز وجل إلى السماء الأولى في الثلث الأخير من الليل، فيه يختلي العبد بربه ويرى مشاهدات النور ومكاشفات الحقيقة، كان يمكن أن يكون نهاراً بالتأكيد، ولكن الله عز وجل أراد أن يؤكد لنا معنى “إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا” أي أن العبادة في الليل هي أشد تأثيراً في القلب لأن القلب يحضر فيها مع ربه، ووصف الله عز وجل الرسول عليه الصلاة والسلام في الآية الكريمة (بعبده) ولم يقل نبيه أو رسوله، وذلك أنّه يريد أن يقول لنا ما بلغ مقام أنْ نتمنن عليه بهذه المعجزة العظيمة إلا بعبوديته الكاملة.


وفي كل آية قرآنية رسالة للمؤمنين، ورسالة هذه الآية (كن عبداً كاملاً لله ليريك الله آياته” معجزاته”) وللإسراء حسب الآية له بداية ونهاية مكانية، بدايته المسجد الحرام وهو أعظم مسجد على الأرض، ونهايته المسجد الأقصى أيضاً من أعظم مساجد الله على الأرض، وبذلك فهو إسراء عظيم بين مسجدين عظيمين، واختار الله عز وجل المسجد الحرام لخصوصيته العظيمة وخصوصية مكة، وهي مهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنَّ كل بدايةٍ إعجازية في حياتك، عليك أن تنهل فيوضاتها من الحضرة المحمدية، ثم تتفتح في روحك الأسرار، وتنسكب على كلياتك الأنوار، وإذا كانت الرحلة عظيمة، فإنك دائماً ستسأل إلى أين ستصل؟ (إلى المسجد الأقصى) وليس فقط هكذا بل الذي باركنا حوله، فيا حظنا نحن أهل فلسطين المباركين بمسجدنا المبارك،

 (لنريه من آياتنا) أي أن تلك المعجزة العظيمة الإسراء والمعراج هي بعض من آيات ومعجزات الله عز وجل والتي لا تُحصى في ملكوته، (إنه هو السميع البصير) أي الذي به يسمع النبي ويبصر، فكانت رحلة الإسراء والمعراج مشاهدات بصرية وصوتية، يعيشها النبيّ حقيقةً لا مجازاً، يصعد السماوات ويخترق الحجب ويصلي بالأنبياء ولا عجب في ذلك، فهو في كنف السميع البصير، أي الذي يسمع ما لا نسمع ويبصر ما لا نبصر، فكان حقاً علينا أن نخضع للسميع البصير وأن نصدق آيته العظيمة لنبيه العظيم.


وإذا كان الله عز وجل اختار فلسطين لتكون باب رسوله وأعظم خلقه إليه، فكيف أيها المسلمون تركتم باب النبي إلى ربه، وكيف طقتم ذلك؟ بل وكيف قبلتم مداهنة أعدائنا نحن أهل المسجد الأقصى وأكنافه التي باركها الله؟ وكيف وكيف وكيف..

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

شارك

مقالات ذات صلة