تأملات
صحِبَتني مختارات ديوان الشاعر القروي رشيد سليم الخوري في غدواتي وروحاتي، أسمعها في السيارة بصوت عارف حجاوي، وأدوّن البيت الرنان الجميل حتى أبحث عنه وأسجله وأعيد تذوُّقه وأتلمَّظ به. كنت أغسل عقلي من الكتابات الركيكة، وأتشوَّق إلى التعبير الأدبي الراقي والكلمة المعبِّرة والشعور المندفع كالبركان بشِعْر جَزْل أشبه بالشعارات السياسية، لكنها فصيحة جدًّا.
ثم إنَّني رأيت شاعرًا يشهد لحظات مهمة من تاريخ العرب؛ وُلد القروي في عام 1887، وعاش ما يقرب من قرن من الزمان، له أبيات عن سقوط السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وله أبيات في مدح جمال عبد الناصر، فقد كتب على الديوان الذي أهداه إلى عبد الناصر:
لُقْياكَ فَرْحَـةُ عُرْسٍ لا انْتِهَـاءَ لَهَا.
وما بين ذلك من حوادث عالمية كتب فيها أشعارًا مثل غرق سفينة تيتانك، ورثاء يوسف العظمة بطل معركة ميسلون التي سقطت فيها دمشق في يد فرنسا، وأبيات في وعد بلفور والتحذير من الانتداب البريطاني، وأبيات تمدح شجاعة سلطان الأطرش في ثورته ضد فرنسا، ورثى فيصل بن الحسين عندما مات 1933، وشهد تحرير الجزائر، واحتفل بعودته إلى الشرق العربي بعد غربة في المنفى البرازيلي.
القروي شاعر شغوف بالعروبة والطبيعة وحب المرأة، ويكره الاستعمار والانتداب، وصف نفسه بأنه بوق العروبة، ووصفه أكرم زعيتر بأنه قِدِّيس الوطنية العربية. مات القروي عام 1984 وكان لبنان غارقًا في الحرب الأهلية، لبنان الذي طالما تَغنَّى به في شعره وهو في مهجره السحيق، فلم يحظَ بحفل تأبين فيه.
عندما رفع صديقي نسخة مصوَّرة من ديوان القروي لأول مرة على الإنترنت، سارعتُ بقراءة مقدمة الشاعر التي تَحدَّث فيها عن نفسه وعن حياته، وتذكرت مقدمة أحمد شوقي لديوانه الشوقيات وكيف برع في وصف حياته الشخصية.
يحكي لنا وديع فلسطين في كتابه عن أعلام عصره أنه زار الشاعر القروي حينما زار مصر عام 1959، كان القروي عاكفًا على فطوره، فقام يعانق وديع فلسطين، ويدعوه لمشاركة الفطور، وقوامه بيض مع رأس ضخم من البصل! هذا يُفسِد خيالنا عن الشعراء الذين ينثرون عواطفهم على كل شيء، لكنَّ وديع فلسطين حينما أبدى ملاحظة للشاعر القروي أن البصل المصري ذو رائحة نفاذة تتخلف في الفم، وقال له: “أنت مطلوب في مقابلات رسمية متعددة، وقد لا يكون من المستصوَب أن تفوح رائحة البصل في أثنائها”، فقال له الشاعر القروي -كأنه يخوض معركة من معاركه الشرسة التي عُرفت عنه-: “إنني لا أغيِّر من عاداتي مجاملة لزيد أو عبيد”. وقد ضبطه وديع فلسطين يحمل كيسًا اشترى فيه كيلوجرامًا من البصل لأن الفندق لم يُسعِفْه ذات صباح بحاجته منه! طبعًا تعرفون وديع فلسطين، كاتب مصري يعيش قلبه مع أدباء المهجر ويتابع ما يكتبه أهل الشام كأنه لبناني، لا من مواليد سوهاج.
سيرة شاعر
تتميز نصوص النثر لدى الشعراء بالبراعة وانتقاء الكلمة في موضعها، دليلي في ذلك ما سجَّله الشاعر القروي في مقدمة ديوانه، حيث حكى طرفًا من سيرته الذاتية، وظهرت فيها لغته كناثر أصيل:
“ليس أعرَفَ بي مني… فما أولاني بأن أزوّد الراغبين بما يكفيهم عناء البحث، وريب الظن، ومذاهب التأويل، وسيرون أني بإيقافهم على مراحل حياتي والهبوط بهم إلى حنايا نفسي، قد سلّمت إليهم المفاتيح، بل أشرعت لهم الأبواب، ولم أشترط عليهم إلا أن يلِجُوا المَخادع بقلوب نقية، وألا يستبصروا بغير النظارات البيض المغسولة.
وأُشهِد الله أني لم أزيّن لهم باطلًا ولم أعرض زائفًا، بل أكاد أُشبِع فضول كل طلعة، حاسوسًا كان أم جاسوسًا. وربما سهوت عن بعض ما يجب إثباته، فمن أضاف إلى حسناتي فمن عنده، ومن زاد في سيئاتي فلعله أقوى حافظةً أو أصدق نظرًا”.
وُلد رشيد الخوري في ليلة عيد الفصح عام 1887، في قرية البربارة على هضبة مشرقة على البحر الأبيض، لم يدخّن قَطُّ، وأحَبُّ الشراب إليه قهوة البُنّ، ولا يشره إلا في الفاكهة، وأطيبها عنده البرتقال والعنب، وربما لَقِيتَه يمشي في السوق يقضم تفاحته، وصديقه ينفخ سيجارته، فإذا فتح صديقه عينيه استغرابًا، سَدَّ القروي أنفه أنِفًا، وراح كلاهما يضحك. يحب الخوري الأناقة، وكان يلبس الجوخة الإنجليزية فقاطعها منذ انفضاح وعد بلفور عام 1917، وكان قليل احتساء الخمر.
توُفّي أبوه سنة 1910، وهاجر هو في سنة 1913 إلى البرازيل، إلى مدينة مريانا، ولبِثَ عند عمه سنة، ثم حمل الكشة (صندوق من الزنك يملؤونه بمختلف السلع، أو بسطات من الأقمشة يشدّونها رزمًا ويعلّقونها بأكتافهم بسيور جلدية ويجولون بها في القرى) كما جاء في كتاب آخر الشعر لعارف حجاوي، وذهب القروي إلى “صنبول”، وهي تعريب القروي لعاصمة البرازيل ساو باولو، وهنا استأنس بما ذكره الصحفي إسكندر رياشي عن الهجرات اللبنانية بقوله: “أي ضيعة في لبنان لم ترسل إلى أميركا نصف أبنائها؟” من كتابه نسوان لبنان.
الشاعر القروي والحب
من أقوال الشاعر القروي الطريفة: “ولو لم يستجِبْ في ما بعد مِزاجي الناريُّ إلى إغراء المرأة -وهي أقوى منافس لله في قلوب الأتقياء- لَمَا كانت لي عنده خطيئة”. هذا شاعر يكهربه الجمال على أنواعه، فيُشِيد بذكر القطعة البارعة ولو أنها لعدوّ لدود، ويضحك للنكتة البكر ضحكة ذات جلاجل وأجراس.
تجلّت هذه الروح -الهادئة- في حياته اليومية بِشرًا يفيض من وجهه ورقة لا متناهية في عشرته، ثم يقول لنا: “فما تَحرَّش بي رفيق… إلا قلت وقلبي بين شفتي: لماذا يا أخي؟ ألا تشعر أني أحبك”.
يصف لنا مشاعره وصفًا رومانتيكيًّا: “أحببت وبكيت كثيرًا، وأحببت وبكيت أكثر، لم أكُن قَطُّ مستهترًا، ولا منَّيتُ فتاةً بوعد، بل كنت في كل حب مطلوبًا أكثر منِّي طالبًا، ولطالما حاولت بالنقلة خنق أكثر من حب في مهده إشفاقًا على صاحبتي وعلَيّ”. وابتُليَ القروي بالمعاصي كسائر الشباب، واستتر ما وسعه الاستتار. ولم يُخِلَّ في غرامياته بالآداب العامة. لم يتزوَّج قَطّ.
في شعر القروي التصاق بالحياة، وكتب أبياتًا عن شواربه التي تزعجه، وظاهرة الفساتين القصيرة (الميني جوب) في عصره، وقال عنها:
لِحَدِّ الرُّكْبَتـينِ تُشَمِّـرِينَا بِرَبِّكِ أيَّ نَهْـرٍ تَعْبُرِينَا؟
وهو ينسب الجمال إلى العرب، حتى عندما فتنته برازيلية شاهدها في إحدى جولاته فقال عنها:
برازِيليَّــةٍ وَطَنـًا.. ولكنْ إلى الأعرابِ تَنْتَسـِبُ انتسابَا
شغفه بالطبيعة
من العبارات الجميلة للقروي قوله:
“أراني في حياتي أشعَرَ منِّي في شِعْري، فما زُرتُ بلدة إلا وشاقني قبل التعرف إلى باطنتها وناسها، أن أرود ما يحيط بها من الأرض الفضاء، مصعِّدًا في الروابي، هابطًا الأودية، سابرًا المغاور جائسًا الكهوف، باحثًا عن الينابيع.
وإذا طغى الجمال كما في لبنان فجمع بين سموّ الجبال ونضرة السفوح وترقرق الجداول وزرقة البحر والسماء، ردَّني إلى خشوع يلصق جبيني بالتراب، ويسكب من عينَيَّ وشَفَتَيَّ تسبيحة رطبة حارة”.
وقد يتجسم شعوري بصلة القربى بيني وبين هذه الأكوان فأنعطف على الشجرة أعانقها، والصخرة أضمها، والزهرة أناغيها، والمرجة أتقلب عليها، وأمدّ ذراعَيّ إلى السماء أحيِّيها، وأبعث إلى الشمس بقبلاتي على أطراف بناني”.
والشمس بين روائع الطبيعة حبيبتي الأولى وفتنتي الكبرى، ليس أبعثَ لنشاطي الجسدي والذهني من الاستحمام بنورها، ولا ينافس إشراقتها في قلبي غير ابتسامة المرأة الحسناء، وأعتقد أن تشاؤم المَعَرِّي كان بقدر حرمانه من كلتيهما”.
وقد تسكن نفسي المضطربة في المدينة إلى عشبة خضراء بجانب الطريق، فأقف عندها، أو أمشي متمهلًا حِذاءها، شاكرًا لها إحسانًا غير مقصود …”.
انتهى اقتباسي من القروي عن حبه للطبيعة.
كيف يَنظِم الشعر
يقول القروي إنه ينظم الشعر، في أي ساعة وأي مكان، في يقظات الليل، في الشارع، في الحافلة، على المائدة، في أثناء الحديث. يدوّن الخاطرة أو البيت، لا ينظم القروي كثيرًا ليلًا، أما سائر قصائده ففي النهار في السفر، أو في الحدائق العامة، أو في الضواحي الهادئة، يتزوَّد القروي طعامه من الخبز والجبن والبيض المسلوق وزجاجة ماء قراح، وينسطح على العشب، أو على الصخرة الملساء. في فُرجة من غابة، أو مطمئنّ من ربوة، ناضيًا عنه أشعة الشمس. ويغيب في مناجاة لذيذة، أو يشعر بالغيظ والأسى إذا كان الموضوع وطنيًّا، فلا يلبث أن تسنح له الخواطر دراكًا تلدها القريحة في الغالب سوية مقمطة كاملة الصياغة والوزن.
وربما استعصت عليه كلمة، أو شمست قافية، أو رَكَّت عبارة، فقضّ مَضجَعُه، وقلق وِسادُه، وضاق صدره، وتشبث موضوع القصيدة بدماغه فبات أكبر هَمِّه أن يتفلّت منه، والحلّ أن يأخذ استراحة ليستأنف بعدها معالجة قرض الشعر.
وفي مدى الأربع والخمسين صفحة من مقدمة ديوانه، راح القروي يشرح لنا زوايا خلقه ونفسه وطبعه، وهذه عناوين من بعض الفقرات التي اشتملت عليها سيرته بقلمه: إيماني، تَديُّني، تَعبُّدي، تسليمي لله، حُبِّي، حُبِّي الأول، لماذا لم أتزوج، شغفي بالطبيعة، شعوري الوطني.
يقول عنه عارف حجاوي: “ما في شعر القروي من سياسة صرَفَ الناس عما فيه من درر ثمينة، وله في شعر السياسة شعر هو من أحلى الشعر. لبدوي الجبل هجاء رائع في ناصر، وللقروي مديح رائع في ناصر. بعض الحمقى يقولون إن الشعر السياسي يموت بانقضاء المرحلة! المرحلة تنقضي والشعر المضمَّخ بالعاطفة، حُبًّا أو كُرْهًا، يبقى”.
أقف معكم وقفات منوعة من ديوان القروي:
“والأفاعي بَناتُ عَمِّ العقاربْ”
أعجبتني قصيدة للشاعر قالها زمن الاعتداء الإيطالي على الحبشة عام 1935:
“ما لِعينيكَ تَرعَيانِ الكواكبْ!
أيَّ خَطْـبٍ وَرَاءَهُـنَّ تُـرَاقِبْ؟
لنْ يُعَادِي مِنْ أجلِكَ العِلْجُ عِلْجًا
والأفاعِي بَنَـاتُ عَـمِّ العقاربْ”
طوال اليوم أردِّد هذا الشطر البديع: “والأفاعي بناتُ عَمِّ العقارب” فِعلًا!
…
ويقول:
“عَبَثًا، والعَتَـادُ سيـفٌ ورُمحٌ
تَتَنـادَوْنَ لَلْـوَغَى يـا أَعَارِبْ
ذهَبَتْ دولةُ الجَحـافِلِ والرَّا
ياتِ والخَيـلِ، والقَنَا والقَوَاضِبْ
…
وأَتَتْ دولـةُ القنـابلِ، والغا
زاتِ والسُّمِّ، والشِّهـابِ الثَّاقِبْ
لـم يَعُـدْ ينفـعُ الأُسودَ وُثُوبٌ
بعدَ أن طـارَ بِالجَنـاحِ الثَّعالبْ
هذه أبياتٌ تشرح لك كيف عبَّر الشاعر العربي عن التطور الحربي للغرب في منتصف الثلاثينيات، وانتهاء حروب السيوف والقواضب وظهور الطائرات حيث تطير الثعالب بالأجنحة.
…
يقول القروي:
”لم أُفِدْ مِنْ مَدارسِ الخُبْثِ إلَّا
أَنَّنِي أَعْجَزُ الوَرى عَنْ فَهْمِهْ
رَغْمَ عِلمِي بِالنَّاسِ أُخْدَعُ، والْمَرْ
ءُ مَسُوقٌ بِطَبْعِه، لا بِعِلمهْ”
الشاعر القروي.
…
يبدو أن الموت هو شرط التكريمِ واعترافِ الأحياء بفضل المميزين، يقول الشاعر القروي:
لو بَعضُ إكرامِنا للنَّابغينَ بَدا مِنَّا لهم قَبْلَ أنْ ماتوا، لَما ماتوا
…
”حَتَّى تكفَّ رِياءَها الشعراءُ”
يقول القروي:
“واللهِ! لستُ أكُفُّ عنْ قَرْعِ العَصا
حتى تكُفَّ ريـاءَها الشـعراءُ
شَكْوَى ولا ألـمٌ، وتشبيبٌ ولا
حُـبٌّ، وتأليـهٌ ولا عُـظَماءُ”
…
في رعاية الله
قال القروي في ريو دي جانيرو بالبرازيل 1914:
أنا في غُرْبةٍ عنِ الأهلِ، لكنْ عنكَ، يا رَبِّ، يَسْتَحِيلُ اغترابُ
أنا طِفْلٌ، وأنتَ تحرسُ مهدِي فَلْتُكَـشِّرْ عنِ النُّيـُوبِ الذئابُ
…
وله أبيات في المدح النبوي:
عِيدُ البَرِيَّةِ عيـدُ الموْلِدِ النَّبَـوِي
في المشْرِقَـيْنِ لَهُ والـمغْرِبيْنِ دَوِي
يا فَاتِـحَ الأَرْضِ مَيْـدَانًا لِقُوَّتِهِ
صَارَتْ بِلادُكَ مَيْـدَانًا لِكُلِّ قَـوِي
يا قَوْمُ! هذا مَسـِيحِيٌّ يُذَكِّرُكُمْ:
لا يُنْهِضُ الشَّرْقَ إلَّا حُبُّنَا الأَخَـوِي
فإِنْ ذَكَرْتُـمْ رسـولَ اللهِ تَكْرِمَةً
فَبَلِّغُوهُ سَـلامَ الشَّـاعِرِ القَـرَوِي
…
نزور القروي في ديوانه لأنه كما كتب وديع فلسطين عن شعر المهجر: “يستحقّ هذا الشعر الذي ردَّده أصحابه في بلاد الأعاجم وفي الوطن، اهتمامًا مجدَّدًا بعدما كاد حتى حماة الأدب ينسونه، وكيف يتذكرونه وقد فشت وشاعت أشكال من الكلام يُقال لها (شعر)، وما هي إلا شقشقة لسان وبرطمة عاجزين!”.
ومن يعجز على مصاحبة الديوان، فعليه بفصل الشاعر القروي من كتاب آخر الشعر، فقد قرا المؤلف ديوان الشاعر واختار لنا أطايبها وشرح بعض الألفاظ والمعاني.