آراء
اليوم تشرق غزة بنورها وببركة دماء شهدائها وتضحيات شعبها، بعد 470 يوماً من العتمة التي خلقتها سحابة الموت والقنابل التي لم تفرق بين كبير وصغير، أو بين بشر أو حجر، ومن تحت ركام البيوت التي أحالها المحتل إلى حطام، تقف غزة منتصبة كشجرة زيتون عتيقة رغم جرحها الغائر، ضاربة جذورها في أعماق الأرض، لتجبر عدوها المجرم نتنياهو أن يجثو على ركبتيه، تماماً كما توعده الملثم ذات يوم.
انتزعت المقاومة الفلسطينية صفقة مشرفة من بين أنياب حكومة نتنياهو المجرمة، لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وتعامل مفاوضو الشعب الفلسطيني الحقيقيون بكل نديّة مع العدو المتغطرس، واستطاع الكف الجريح ليّ ذراع المحتل المتجبر الذي فشل بتحقيق جميع أهدافه في حرب الإبادة. هذه قصة انتصار كُتبت بدماء الشهداء وصمود الناس، وأثبتت أن الحقوق كما تنتزع بالقوة في ميادين الجهاد فهي كذلك في ميادين التفاوض، لا بالضعف والتساهل الذي لن يتبعه إلا التنازل.
أُجبرت “إسرائيل” التي جنّدت حكومات العالم “المتحضر” خلفها وتسلّحت بأعتى أنواع ذخائر “العالم الحر” وقنابله الذكية والغبى، على التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل للأسرى مع المقاومة، صاغرة. تلك الصفقة التي وصفتها الصحافة الإسرائيلية بأنها “هزيمة كبرى” و”إذعان مذل”، كشفت عن فشل دولة الاحتلال الذريع في تحقيق أهدافها من حرب إبادة استمرت أكثر من 15 شهراً، راح ضحيتها عشرات الآلاف الشهداء والجرحى، غالبيتهم من النساء والأطفال
“من كان يصدق أننا سننحني أمام حماس!”، هكذا عبّر رموز الإعلام الإسرائيلي عن صدمتهم من توقيع هذه الصفقة. بينما وصفتها بعض القنوات الإسرائيلية بأنها “الإخفاق الأكبر في تاريخ إسرائيل”، وأطلق كبار المحللين والسياسيين وكتاب الأعمدة وصلة من النقد اللاذع والشتائم ضد نتنياهو الفاشل وحلفائه.
وتمثلت أبرز مظاهر الغضب والتخبط في استقالة وزير “الأمن القومي”٬ الإرهابي المعتوه إيتمار بن غفير، الذي دعا بقية أعضاء الحكومة للانسحاب، محذراً مما سماه “الكارثة”. لم يخف ابن غفير رعبه، ولم يفكر مرتين عند تحديد من المنتصر في هذه الحرب، إذ يقول: “شعرت بفزع عندما سمعت عن الصفقة.. واليوم عندما تم الكشف المزيد من تفاصيلها، أشعر بمزيد من الفزع.. فرحة الفلسطينيين التي تابعناها في غزة والضفة الغربية تظهر من هو الذي خضع في هذه الحرب”!
أما الصحفي الإسرائيلي المتطرف هليل بيتون روزين، وصف الصفقة بأنها “إذعان مذل لحماس، بعد حرب لطالما وصفتها الحكومة الإسرائيلية بأنها أطلقت للقضاء على حماس. لكن بعد خسائر بشرية واقتصادية هائلة، بدا أن “إسرائيل” لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة، إلا بالمزيد من قتل المدنيين العزل ونسف المنازل والمدارس والمساجد والكنائس.
الشارع الإسرائيلي الذي فقد الثقة بنفسه وقيادته، انقسم كالعادة بين مؤيد ومعارض لهذه الصفقة، تظاهر الآلاف للمطالبة بمحاكمة نتنياهو وتحميله مسؤولية المماطلة في استعادة الأسرى ومقتل مئات الجنود على الجبهة، وكذلك “الخسائر المهولة” التي تكبدتها الدولة بسبب الاستمرار في الحرب. في حين تظاهر آخرون متطرفون لطلب وقف الصفقة “المذلة” ومنع إخراج الأسرى الفلسطينيين أو الإنسحاب مع المحاور التي احتلها الجيش الإسرائيلي في غزة، وقال إنه لن ينسحب منها يوماً.
أما المحللون على الشاشات الذين كانوا يدافعون عن نتنياهو بالأمس، فيتهمونه اليوم بالخوف من ترامب والخنوع لحماس التي نجحت بترميم جراحها وتعزيز قوتها ولم ترفع راية بيضاء، فيما اتهم آخرون بتفضيل نتنياهو مركزه السياسي على حساب “مصلحة الدولة”، مشيرين إلى أن الصفقة الموقعة هي نفسها التي رفضها سابقاً في مايو/أيار الماضي، ما أدى إلى خسائر بشرية إضافية في الأسرى والجنود كان من الممكن تفاديها.
أما أهداف “إسرائيل” التي باءت بالفشل، فحدث ولا حرج.. كان الهدف الأول للحرب المعلنة هو تدمير البنية التحتية لحماس والقضاء عليها نهائياً. لكن الواقع أثبت أن الحركة، رغم الضربات الموجعة، لا تزال تقف على قدميها، بل وتواصل إعادة بناء قوتها العسكرية بوتيرة أسرع من توقعات الجيش الإسرائيلي وباعترافه المباشر.
وأجمع العديد من الكتاب الإسرائيليين مثل عاموس هارئيل وآفي يسخاروف وبين كاسبيت٬ على أن حماس لم تهزم ولا يمكن اقتلاعها من جذورها، حيث أن قدرتها على إطلاق الصواريخ والعمليات العسكرية تؤكد فشل “إسرائيل” في تحقيق أهدافها. بل إن الحركة قد تغدوا أكثر قوة، مع استعادة المئات من أسراها الذين سيمثلون قيادات جديدة لصفوفها٬ تماماً كما فعلت “صفقة شاليط” وأخرجت السنوار ورفاقه الذين قادوا الطوفان على “إسرائيل” في بضع سنين.
وكان نتنياهو وقادة الجيش قد أعلنوا منذ أول يوم للحرب، أن استعادة الأسرى هدفاً مركزيًا للمعركة وأنه لن يتحقق إلا بالقوة، لكنهم أخفقوا في تحقيق ذلك جملة وتفصيلًا. بل إن محاولات الإنقاذ بالقوة أفضت إلى مقتل عدد من المحتجزين، ما أثار غضب ونقمة الشارع الإسرائيلي على قيادته، ولم تنجح دولة الاحتلال خلال 15 شهرًا من الحرب الطاحنة، إلا في تحرير عدد محدود جداً من أسراها، معظمهم خلال الهدنة الأولى، أو من خلال عمليات دامية أودت بحياة الجنود الصهاينة والمحتجزين وحراسهم على حد سواء.
ولطالما ادعت دولة الاحتلال أن بقاءها في محور فيلادلفيا “ضرورة قصوى” لمنع تهريب الأسلحة إلى غزة، لكن الاتفاق الأخير ينص على انسحاب الجيش الإسرائيلي تدريجياً من هذا المحور، وكذلك محور نتساريم الذي كان يقطع أوصال القطاع، ما يعد هزيمة استراتيجية كبرى للمحتل.
وكان أحد أهداف الحرب الإسرائيلية أيضاً ضمن ما يُعرف بـ”خطة الجنرالات” إفراغ شمال غزة من سكانه وفرض أمر واقع يمنع عودتهم، بل وحتى استعادة الاستيطان في المنطقة. ومع توقيع الاتفاق اليوم، ستُجبر “إسرائيل” وهي تجثو على ركبتيها، على السماح بعودة السكان إلى مناطقهم دون قيد أو شرط، مما يعني أن خطط الاحتلال واليمين المتطرف الاستيطانية قد انهارت تماماً.
ورغم الدمار الهائل الذي خلفته حرب الإبادة، خرجت غزة من هذه المعركة منتصرة. وأظهرت المقاومة الفلسطينية قدرة هائلة على التحمل والصمود والتفاوض الندّي، واستطاعت أن تنتزع من دولة الاحتلال اتفاقاً يعترف بوجودها وقوتها وعلو قدمها.. وهذا النصر يعكس درساً مهماً لنا وللعالم بأسره: لا يمكن كسر إرادة الشعوب مهما بلغت آلة الفتك. فغزة لم تحقق هذا الإنجاز بالسلاح فقط، بل بالإيمان العميق بحقها في الحرية والحياة، ولذلك أفشلت مخططات التهجير ومحاولات إفراغ القطاع من أهله.
اليوم، وبينما يتخبط الاحتلال في أزماته السياسية والعسكرية وأمراضه المجتمعية، تؤكد غزة مرة أخرى أن النصر لا يُقاس بكثرة العدة والعتاد، بل بثبات الإرادة وبالإيمان الذي لا ينضب، وذلك رغم تخلي القريب والبعيد، وانكشاف حال الأمة العاجزة، بما لا يكن يتصوره عقل ولا منطق. ما تحقق اليوم ليس سوى محطة على طريق طويل، تُعبّده دماء الشهداء، وتُرصّفه تضحيات وبطولات المقاومين الذين يواجهون أعتى آلة حرب عرفتها البشرية بصدورهم العارية.
قاتلت غزة بدمها ولحمها 15 شهراً، ولم ترفع راية بيضاء لعدوها الذي قهرته على الدوام، ولم يضرها من خذلها أو تآمر عليها، وما أكثرهم.. ورغم أن هذه الجولة من الصراع مع الاحتلال كانت عظيمة ومزلزلة، بالتضحيات والدماء والبطولات والامتحانات، إلا أنها لن تكون الأخيرة، بل عسى أن تكون بداية نهاية الاحتلال الفعلية، وعسى أن نتعلم منها الدروس والعبر، وأن نرد لغزة بعض دينها الكبير في أعناقنا، وأن نعد العدة ونوطن أنفسنا لجولات أخرى من الصراع مع هذا العدو السرطاني الذي يتربص بنا في كل لحظة، ولن يكون مصيره إلا الزوال الحتمي بإذن الله.