آراء
أخذَتني قدمي يوم الجمعة الماضية للتجوُّل في منطقة مشيرب في قلب الدوحة، سرت في المنطقة مع أسرتي الصغيرة والأصدقاء، كان المقصد الانضمام إلى فاعلية سماع قصص للأطفال، لم أستطع الوصول إلى مكان سماع القصة، لكن اكتشفت قصة أجمل عن متحف في حوش مشيرب، تَمتَّع فيه الصغار والكبار بقصص التاريخ، المتحف يحمل عنوان “بيت الشركة“.
يتميز هذا البيت بأهميته الكبيرة، إذ كان مقرًّا لأول شركة نفط في قطر، ويوثّق تاريخ الرواد القطريين الأوائل الذين عمِلوا بكدّ ونشاط في حقول النِّفْط قديمًا. يضمّ المتحف كذلك الشاحنة التي كان يستخدمها هؤلاء الرواد في تنقلاتهم والخوذ التي كانوا يعتمرونها في أثناء عملهم والهواتف القديمة التي كانوا يستخدمونها إلى جانب الأنابيب النحاسية المستخدمة في نقل النِّفْط والغاز، وتتوسط المتحف ساحة العمال التي تصف حياتهم.
يضمّ “بيت الشركة” مقتنيات ومُعَدَّات كانت تُستخدم في الشركة، ويرى فيه الزائر شهادات من الرحالة عن قطر، وحكايات بدايات النِّفْط وملفَّات من المجلات التي غطت تلك الفترة، ولفت نظري براعة عرض التاريخ عبر الشاشات والرسوم التوضيحية. وقفت أمام شاشة تعرض مذكرات لشخص بريطاني عمل في الدوحة اسمه روبرت إريك هيل، وُلد في إنجلترا عام 1917، وفي عام 1948 قدِمَ إلى الدوحة ليصبح المسؤول عن صرف الرواتب لدى الشركة في منطقة زكريت.
غادر روبرت قطر في عام 1955، ولكنه عاد لزيارتها عدة مرات خلال حياته، وعقب وفاته في عام 2002 اكتُشِفَت مذكراته التي دوَّنها عن فترة وجوده في قطر، ورسم من خلالها مشاهد حية لصناعة النِّفْط في بداياتها المبكرة، تقرأ صفحات من هذه المذكرات عندما تقف أمام الشاشة وتشعر أنك أمام آلة الزمن تنتقل بك أكثر من خمسة وسبعين عامًا إلى الوراء، هذا مثال لما يوفّره بيت الشركة من شهادات مكتوبة وشفوية عن قطر في بداية ظهور النِّفْط فيها.
كما يكشف لنا هذا البيت ظروف حياة العمل اليومية القاسية التي كان يمر بها أولئك الرواد الذين عملوا بجد تحت أشعة الشمس الحارقة في الوقت الذي كانت فيه وجوههم ترتسم عليها ابتسامة قهرت عناء ومشقة الحياة. ويضمّ “بيت الشركة” عديدًا من المقتنيات والمعدات التي كانت تُستخدم في الشركة مثل وثائق العمال وأحد أوائل مولّدات الكهرباء في الدوحة.
السواعد السمر: قصة النِّفْط في قطر
كعادتي في التجول في المدن، أحاول أن أفهم تاريخها وأن أحاور ماضيها لمعايشة واقعها، فعلت ذلك لسنوات في حياتي في إسطنبول، وكتبت عن المدينة وحكايات العرب الذين عاشوا فيها، حيث كنت أتطلع إلى قصص الخلفاء والعلماء بين أزقَّتها التاريخية ومبانيها العتيقة، هذه المرة وفي الدوحة أحببت زيارة المتاحف ورؤية التاريخ الذي مرّ على المكان.
في بيت الشركة انضمّ الأطفال والكبار لحضور فيلم قصير ممتع بعنوان السواعد السمر، يحكي قصة عامل قطري يذهب إلى مكان النِّفْط ويقصّ حكايات العمل الشاقة في الأُويِل كما ينطق الراوي، أي النِّفْط، ذكّرني ذلك بكتاب يحمل نفس الاسم السواعد السمر: قصة النِّفْط في قطر، حيث دون المؤلف كثيرًا من الروايات الشفهية لمن عملوا في النِّفْط من رجال قطر، ووصف حالة المدينة والدوحة قديما، وقد كتب الكتاب بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على تصدير أول شحنة من النِّفْط عام 1950 إلى أسواق العالم، المؤلف هو ناصر محمد العثمان، انضمّ إلى جريدة “الراية” رئيسًا لتحريرها عام 1979، كما تولى رئاسة تحرير جريدة “الشرق” عام 1989.
كانت السيارات التي تُقِلّ الموظفين في شركة النِّفْط، تقف خلف بيت الشركة، وعند وصولهم إلى الدوحة كان الناس يستقبلوهم بكل فرح ويرفعون الأعلام، ويرجع تاريخ بيت الشركة إلى الحج عبد الله وليمسون المسلماني، الذي قدِم إلى الدوحة في أول توقيع الامتياز، وقد حكى إبراهيم بن صالح المطر المهندي، الذي عمل في الشركة منذ عام 1938، أنه رأى الحاج وليمسون وصلّى خلفه عدة مرات، وكان وليمسون إنجليزيًّا مسلمًا، وقد صدرت سيرة وليمسون وتُرجمت إلى العربية بعنوان “رحلات المغامر العربي“.
يسجِّل المؤلف ناصر محمد العثمان حكايات عن حياة مدينة الدوحة في عام 1949، التي كانت أكثر من قرية كبيرة يقطنها ما يقارب اثني عشر ألف نسمة. كانت منازلها بسيطة متلاصقة بالحجارة والطين، ولم تكن الدوحة مُضاءة بالكهرباء، وكانت مولدات الكهرباء معدودة، أحدها في بيت الشركة، ويرصد المؤلف أن الأحوال الاقتصادية العامة كانت تعاني ركودًا عامًّا، بسبب كساد تجارة اللؤلؤ أو قِلّتها بعد اكتشاف اللؤلؤ الياباني، وما جعل الحياة تأخذ في التحسن هو عمليات التنقيب عن النِّفْط التي أخذت الحياة تدبّ فيها بعد انقطاعها بسبب الحرب العالمية الثانية، وقد استقطبت هذه الصناعة كثيرًا من الكهول والشبان الذين تدافعوا للعمل في الشركة.
كان عمال النِّفْط يعملون في منطقتَي دخان ومسيعيد، وكانوا يأتون إلى الدوحة مرة في الأسبوع فكان يوم عودتهم الأسبوعية مشهودًا، كما يذكر المؤلف في السواعد السمر، فالكل يخرج لاستقبالهم حالَما يسمعون صوت الشاحنات التي تُقِلُّهم قادمة من غرب مدينة الدوحة.
عمال النِّفْط هؤلاء كانوا يمثِّلون طبقة جديدة في المجتمع، فبحكم عملهم في الشركة اكتسبوا خبرات في قيادة السيارات والآليات الكبيرة وميكانيكيتها، وفي الأعمال الفنية والهندسية، كما اكتسبوا نوعًا من الانفتاح بسبب احتكاكهم بالإنجليز القائمين على صناعة النِّفْط وبالهنود العاملين معهم، حتى إن لهجتهم لم تخلُ من بعض الألفاظ الإنجليزية، وبالطبع كل التحولات أثارت إعجاب الناس بالتمدُّن الذي وصلت إليه هذه الفئة، وقد اهتمّ كِتاب السواعد السمر بتسجيل حكايات شفوية لهذا الرعيل الأول، والجميل أن المتحف حافظ على تسمية السواعد السمر وحوَّل كثيرًا من قصص الكتاب إلى حكايات، مثل طاولة عليها أسماء العاملين الأوائل.
متاحف ممتعة وتأملات في الفن الإسلامي
“بيت الشركة” متحف جميل، وهو إحدى سلاسل المتاحف التي تتميز بها الدوحة، لعلِّي أحكي في مقالة قادمة عن بيت بن جلمود. من الأمور التي تتميز بها المدينة إتقان صناعة المتاحف من حيث جمال التصميم وبراعة العرض. والذي يستحق الإشارة هو المتحف الوطني، وكيف يُعتبر صديقًا للعائلة ويستوعب الزوار والأطفال ويستمتعون فيه، وكذلك متحف الفن الإسلامي الذي يضمّ مقتنيات من التاريخ الإسلامي، فضلًا عن منشوراته الفخمة المميزة، ومنها كتاب أحبه بعنوان “تأملات في الفن الإسلامي“، من تحرير أهداف سويف.
كنت أحرص على شراء نسخ منه للأصدقاء المهتمين بالفن في مصر، وكذلك ألبومات وكتالوج المعارض الفنية، وفكرة كتاب تأملات في الفن الإسلامي تقوم على زيارة سبعة وعشرين من أبرز الكتاب والمفكرين في العالم متحف الفن الإسلامي بناء على دعوة وجّهَتها إليهم إدارة المتحف، لمشاهدة مقتنياته البديعة وانتقاء إحداها -مثل إسطرلاب أو كتاب أو ورقة- ليسجّلوا انطباعاتهم وردّ فعلهم حيال هذه القطع. وقد جُمعت هذه التأملات والقطع الفنية الرائعة في كتاب مصوَّر متميز تُصدِره هيئة متاحف قطر.
وكان في الكتاب عدة مقالات مميَّزة، واحدة لرضوى عاشور عن مقلمة أندلسية، ومقالة لناصر الرباط عن متحف الفن الإسلامي وذكرى جامع ابن طولون وكيف وجد مصمم المتحف “آي إم بي” في جامع ابن طولون في القاهرة جوهر العمارة الإسلامية وعثر على الإيحاء الذي كان يفتش عنه من أجل تصميم متحفه.
وكتب “سلافوي جيجك” مقالة عن طبق منقوش عليه بيت شعر ليحيى بن زياد يقول فيه:
“والمرء تلقاه مضياعًا لفرصته.. حتى إذا فات أمرٌ عاتب القَدَرَا”
جدير بالذكر أن الترجمة العربية للكتاب ضيَّعَت معنى البيت عندما ترجمته حرفيًّا من الإنجليزية بحيث أصبح عبارة نثرية لا بيت شعر، لكن بالبحث عثرتُ على هذا البيت الجميل.
ومقالة أخرى تراها في الكتاب تتناول واحدة من لوحات الفن المغولي بقلم المؤرخ البريطاني الشهير إيريك هوبزباوم، كل هذا حول من مقتنيات المتحف الفن الإسلامي لموادَّ ملهمة للمؤرخين والفنانين والروائيين.
الخليج ليس نِفطًا فقط، بل حياة منوعة وثرية لا يمكن تلخيصها في جانب واحد كما فعل بعض الأدباء والشعراء على سبيل الاستسهال، ففي شعر نزار قباني كراهية للنِّفْط العربي وتنميط لصورة الخليج العربي، فبعد أن قال: “أنا يا صديقةُ مُتعَبٌ بعروبتي.. فهَلِ العروبةُ لَعنةٌ وعِقابُ؟“، تَحدَّث عن النِّفْط بسلبية، ومن تناقضاته تَسلَّم نزار جائزة سلطان العويس التي بلغت مئة ألف دولار، وهذا يذكِّرُني بالناقد الأدبي ماهر شفيق فريد الذي يزدري دول النِّفْط، ثم استكان بأخرة فنشر مقالات في جريدة “الشرق الأوسط” الخليجية. هذه رحلة بين المتاحف في الدوحة ودعوة إلى التأمل في المقتنيات الفنية والنظر في التاريخ لهذه المدينة الجميلة.