آراء
في تطور مفصلي، حقق الجيش السوداني انتصارًا كبيرًا باستعادة السيطرة على مدينة ود مدني، التي تقع في منطقة تُعرف بـ “سلة الخبز” للسودان، مما يجعل السيطرة عليها ضرورية لضمان الإمدادات الغذائية واستقرار المنطقة. يأتي هذا الانتصار في سياق مطاردة الجيش لميليشيا قوات الدعم السريع، المتهمة مؤخرًا من قبل الولايات المتحدة بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
استعادة مدينة ود مدني، الواقعة على بُعد 200 كيلومتر جنوب شرق العاصمة الخرطوم، يمثل تطورًا استراتيجيا كبيرًا ويشكل ضربة قوية لقوات الدعم السريع شبه العسكرية. هذا الصعود يأتي بعد تقدم الجيش نحو مدينة أم درمان، ثاني أكبر مدن السودان، في الأسبوع الماضي، واستمرار تحقيقه مكاسب عسكرية على مدار الأشهر الأخيرة.
تتمتع المدينة بموقع استراتيجي بالغ الأهمية كونها مفترق طرق للإمدادات يربط بين ولايات رئيسية في البلاد. المدينة التي تعد عاصمة ولاية الجزيرة، مركز زراعي وتجاري حيوي في قلب السودان، كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع منذ ديسمبر 2023، مما منحها نفوذًا كبيرًا للتحرك نحو مناطق استراتيجية أخرى.
كما أن السيطرة عليها تمثل ميزة لوجستية كبيرة، حيث تتيح لمن يسيطر عليها إمكانية الوصول السريع إلى ولايات محورية مثل سنار في الجنوب الشرقي، والنيل الأزرق في الشرق، والنيل الأبيض في الجنوب. وهذا ما يجعل من تحريرها خطوة حاسمة تعزز من قدرة الجيش السوداني على إحكام سيطرته على مساحات شاسعة من البلاد واستعادة زمام المبادرة في هذا الصراع.
فبعد عام من استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني، في هجوم مروع أجبر عشرات الآلاف على النزوح وخلق حالة من الصدمة في جميع أنحاء السودان، حيث كان استيلاء قوات الدعم السريع على المدينة قد مثل نقطة تحول لصالحهم، ووسعت الميليشيا سيطرتها على مساحات شاسعة خارج معقلها التقليدي في دارفور. لكن دارفور بقيت مسرحًا لأبشع جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الدعم السريع. فوفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، نفذت الميليشيا عمليات إبادة وذبح ممنهج استهدفت مجموعات عرقية منافسة. وهذا ما يفسر لماذا في الأسبوع الماضي، وصفت الولايات المتحدة رسميًا هذه الجرائم بأنها “إبادة جماعية”، وفرضت عقوبات صارمة على قائد قوات الدعم السريع، الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إلى جانب فرض عقوبات على سبع شركات في الإمارات العربية المتحدة اتُّهمت بتجارة الذهب وشراء الأسلحة لدعم قواته.
لكن في الأشهر الأخيرة، بدأ ميزان المعارك يميل لصالح الجيش، حيث خسر مقاتلو قوات الدعم السريع أجزاءً كبيرة من الأراضي في الخرطوم وشرق السودان. وتمخض من ذلك بتقدم استراتيجي للجيش في محيط ود مدني، انتهى باستعادة السيطرة الكاملة على المدينة يوم السبت.
وفي خطاب صوتي إلى مقاتليه، اعترف قائد قوات الدعم السريع، الجنرال محمد حمدان دقلو، بالهزيمة في مدينة ود مدني، لكنه تعهد باستعادتها قريبًا. وقال دقلو: “اليوم خسرنا جولة؛ لم نخسر المعركة”، في محاولة لرفع معنويات أتباعه وإبقاء الأمل حيًا في صفوف قواته.
هل تغير ميزان القوى حقًا؟
رغم جميع ما سبق، فإن الحديث عن تغيير جذري في مسار الصراع بعد استعادة ود مدني يبدو سابقًا لأوانه، فالحرب التي اندلعت شرارتها الأولى في أبريل/نيسان 2023 اتسمت بتقلبات حادة في ميزان القوى، حيث يتغير زخم المعارك بين الطرفين بشكل مستمر وغير متوقع.
اللافت أن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لم يكونا خصمين منذ البداية، بل شكلا حلفًا في السابق، حين اتحد قادتهما للإطاحة بالحكومة المدنية في انقلاب عام 2021. لكن الحرب بينهما كشفت عن انقسامات عميقة، كما أبرزت تدخلات قوى أجنبية متعددة تدعم كل طرف وفقًا لمصالحها.
في هذا الإطار تحظى قوات ميليشيا الدعم السريع بدعم قوي من الإمارات العربية المتحدة، التي تعد من أبرز الرعاة الخليجيين لهذه الميليشيا، حيث زودتها بالأسلحة والطائرات المسيّرة المتطورة، والتي تم تهريب معظمها إلى السودان عبر دول مجاورة.
ورغم التقدم الكبير الذي حققه الجيش السوداني باستعادة مدينة ود مدني، لا تزال قوات الدعم السريع تسيطر على أجزاء واسعة من ولاية الجزيرة، بالإضافة إلى سيطرتها الكاملة على إقليم دارفور في غرب السودان ومناطق شاسعة في جنوب البلاد. أو بالتحديد تُسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء من العاصمة الخرطوم، بما في ذلك بعض المباني الحكومية والمناطق الجنوبية. كما تمتد سيطرتها إلى مناطق في إقليم دارفور ومدن مثل الرهد وأم روابة في ولاية شمال كردفان.
وفي خضم هذا العبث الدموي الذي تنهجه ميليشيا تجاه الشعب السوداني، فقد لجأ أيضًا إلى استغلال الثروات الطبيعية الهائلة للسودان، وعلى رأسها احتياطيات الذهب الضخمة، لتمويل عملياتها العسكرية، مما ضاعف من معاناة الشعب السوداني الذي يعيش تحت وطأة هذه الحرب.
أما الجيش السوداني، الذي حصل على دعم عسكري مؤخرًا من دول مثل إيران وروسيا وتركيا، فقد أتاح له الحصول على أسلحة متقدمة عززت قدراته القتالية وأمكنته على إبقاء سيطرته على مناطق واسعة في شمال وشرق السودان، بما في ذلك مدن مثل بورتسودان، دنقلا، وعطبرة. كما يحتفظ بنفوذ في أجزاء من العاصمة الخرطوم، خاصة في المناطق الشمالية والشرقية.
لكن ولتحديدٍ أدق، فإن هذا الانتصار أتى بعد حملة عسكرية مكثفة شنها الجيش خلال الأشهر الأخيرة بعدما تسلم الأسلحة التركية النوعية، بهدف استعادة السيطرة على ولاية الجزيرة، خاصة بعد نجاحه في تحرير ولاية سنار الواقعة إلى الجنوب.
يُضاف إلى ذلك التحول الكبير في الأحداث الذي وقع في أكتوبر/تشرين الأول، من العام الماضي، عندما انشق قائد قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة، أبو عاقلة محمد أحمد كيكل وأعلن ولاءه للجيش السوداني، مما عزز من قدرات الجيش في المنطقة. وقد لعبت قوات هذا القائد دوراً محورياً في العمليات العسكرية التي توجت باستعادة ود مدني. ولم يقتصر الأمر على استعادة مدينة ود مدني، فقد أعلن الجيش السوداني، مساء الأحد، نجاحه في استعادة السيطرة على مدينة تمبول الواقعة شرق ولاية الجزيرة. يأتي هذا الإنجاز كالثاني من نوعه خلال 48 ساعة، مما عزز موقف الجيش في مواجهة قوات الدعم السريع.
ما أهمية استعادة ود مدني استراتيجيًا؟
استعادة ود مدني تمثل نقطة تحول حاسمة في الحرب، وضربة موجعة لقوات الدعم السريع، التي كانت تتمتع بمزايا كبيرة في الصراع المستمر منذ قرابة عامين.
السيطرة على المدينة تمنح الجيش ميزة استراتيجية هامة، حيث تفتح الطريق أمامه للوصول إلى ولايات حيوية أصبحت قوات الدعم السريع الآن معزولة عنها، مثل ولايات سنار، النيل الأزرق، والنيل الأبيض. كما أن ود مدني أكثر من مجرد مدينة استراتيجية، إذ تمثل استعادتها تحولاً نفسياً وميدانياً في مسار الحرب لصالح الجيش السوداني. حيث تضم المدينة الفرقة الأولى للمشاة التابعة للجيش السوداني، مما يعزز من الروح المعنوية بين الجنود والقيادة العسكرية، خاصة بعد شكاوى سابقة من أداء القيادة خلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة. إضافيًا، يُتوقع أن يحظى الجيش السوداني بدعم متزايد، ليس فقط من جنوده وضباطه، بل أيضاً من المواطنين السودانيين الذين رأوا في هذه الخطوة بداية لاستعادة الاستقرار.
على الطرف الآخر، يعطي هذا الانتصار أملا لإحياء الأمن الغذائي ومعالجة أزمة الجوع. فولاية الجزيرة، التي تعد من أغنى مناطق السودان زراعياً، كانت تعاني من شلل شبه كامل في النشاط الزراعي تحت سيطرة قوات الدعم السريع، مما فاقم أزمة الجوع وأدى إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي. لكن استعادة الجيش السيطرة على المدينة توفر فرصة لإعادة تنشيط الزراعة، مما يساهم في معالجة أزمة الغذاء والمجاعة المستفحلة في البلاد.
أي توازن القوى لصالح الجيش؟
للحديث عن تغير جذري في مسار الحرب، وفي المنظور الاستراتيجي البحت فإنه المدن المهمة التي يجب على الجيش السوداني التركيز على تحريرها لضمان استعادة السيطرة الكاملة، بعد استعادة ود مدني، تبرز منها عدة مدن استراتيجية، منها:
الخرطوم، رغم أن الجيش يحتفظ بنفوذ في أجزاء من العاصمة، إلا أن السيطرة الكاملة على الخرطوم تُعد حاسمة لإعادة بسط سلطة الدولة. وكذلك أم درمان، إذ تُعتبر من أكبر مدن السودان وتحتل موقعًا استراتيجيًا بجوار الخرطوم، استعادتها ستعزز من سيطرة الجيش على العاصمة الكبرى. عطفا على مدينتي الرهد وأم روابة، اللتان تقعان في ولاية شمال كردفان وتُعدان مراكز حيوية، تحريرهما سيُضعف من قدرات قوات الدعم السريع في المنطقة. ومن المدن المهمة كذلك مدينة الفاشر والجنينة في دارفور، تُعتبران من أهم مدن إقليم دارفور، استعادتهما ستُساهم في تقليص نفوذ قوات الدعم السريع في الغرب.
وعليه وحتى تحرير هذه المدن التي سيُعزز من موقف الجيش السوداني ويُمهّد الطريق نحو استعادة الاستقرار في البلاد، فإن الحديث عن انهيار ميليشيا الدعم السريع وخسارة داعميها الأجانب يعتبر سابقًا لأوانه.
الخاتمة: لكن حتى ذلك الحين الذي سيحرر الجيش السوداني أهم مدن البلاد من الميليشيا ومُموليها، -وهو آتٍ لا محالة وفق معطيات الميدان- فإن هذا الانتصار للجيش السوداني الذي جلب معه أجواءً من الفرح والاحتفالات في المناطق التي يسيطر عليها الجيش، قد منح بارقة أمل ونقطة تحول في حرب أهلية أنهكت البلاد وتسببت في مذابح مروعة وتطهير عرقي ومجاعة واسعة النطاق في واحدة من أكبر الدول الأفريقية. ففي شوارع الخرطوم، رغم الدمار الذي خلفته المعارك، تجمع الناس محتفلين بهذا الحدث، بينما دقت أجراس الكنائس في بورتسودان، العاصمة المؤقتة التي أصبحت ملاذًا لآلاف السودانيين الفارين من أتون الحرب. ولم تقتصر الاحتفالات على الداخل السوداني، إذ عمّت البهجة أوساط السودانيين في المهجر، من مصر إلى السعودية وقطر، حيث شهدت الجاليات السودانية تجمعات احتفالية تعبيرًا عن دعمهم للجيش وآمالهم في استعادة السلام والاستقرار لوطنهم.
أما الميليشيا التي باتت الآن متهمة رسميًا بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، فإن هذا النصر الكبير يبدو كضربة قاصمة لآمالها في كسب أي اعتراف كانت تطمح إليه، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. ومع هذا التقدم الميداني، تتبدد طموحاتها تدريجياً، مما يفتح الأفق نحو مسار محاسبة قادتها عن الجرائم البشعة التي ارتكبت بحق الشعب السوداني.