آراء
في خضم هذا الزمن الذي تتهاوى فيه القيم، وتتراجع فيه الدعوة، وتُكسر فيه ثوابت الأمة تحت وطأة تيارات الفكر الغريب، أكتب إليكم يا علماء الأمة. أنتم ورثة الأنبياء، تيجان رؤوسنا، وحملة شعلة النور التي لا تنطفئ في ظلمات الحياة. أحمل إليكم هموم شباب الأمة الذين طال انتظارهم لعلماء يقتربون منهم، ينصتون إلى أوجاعهم، ويفتحون أمامهم نوافذ الأمل والعمل. إنهم يتطلعون إليكم كقدوات تضيء دروبهم في زمن امتلأت فيه الساحة بأشباه القدوات وصناع الضياع.
لقد كانت الأمة في أزهى عصورها حين كان العلماء يتقدمون الصفوف. كانوا سدودًا منيعة أمام طوفان الجهل، وأبراجًا شاهقة تهدي السائرين. نستذكر الإمام العز بن عبد السلام، الذي وقف كالطود الشامخ في مواجهة التتار، وقاد الأمة بعلمه وعزمه. كما نستحضر شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي جمع بين عمق الفقه وسيف الجهاد، فصار مدرسة في الإيمان والعمل. هؤلاء العلماء وغيرهم، كانوا ملاذ الأمة وقت الشدائد، وصوتها الذي يصدح بالحق حين يسكت الجميع. أين نحن اليوم من تلك النماذج؟ أين علماء الأمة من صدارة المشهد؟ وكيف تركنا شبابنا عرضةً للتيه والانحراف؟
قال الله تعالى: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء”. كلمات عميقة تُبرز مكانتكم ومسؤوليتكم. لقد جعلكم الله أمناء على هذا الدين، وأناط بكم حفظ مقاصده الكبرى؛ حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. أنتم حراس الهوية الإسلامية، وصناع المنعة الفكرية، وبدونكم تتداعى الأمة كما تتداعى الأكواخ تحت عصف الريح.
حين غاب العلماء عن أدوارهم الحقيقية، تُركت الساحة خاوية، فتسربت إليها أفكار دخيلة، وأصوات غريبة، ملأت الفراغ، لكنها أضلت السبيل. في عصور سابقة، كان العلماء يقودون حركات التحرر والمقاومة، كما فعل علماء الأزهر في مواجهة الاحتلال، وعلماء المغرب العربي في مقاومة المستعمر. اليوم، نشهد واقعًا يزداد سوءًا بتراجع الحضور العلمي والدعوي. غيابكم، أيها العلماء، عن ساحات المواجهة الفكرية جعل الشباب يبحثون عن بدائل، بعضها لا يمت إلى الدين بصلة، وبعضها يحيد عن سبيل الاعتدال.
شباب الأمة اليوم يعيشون اغترابًا فكريًا، وأزمة هوية عميقة. إنهم أمل الأمة، وذخيرة مستقبلها، لكنهم يقفون على حافة الهاوية، بين تيارات تضرب ثوابتهم، ودعاوى تجرهم بعيدًا عن دينهم وأمتهم. إنكم مسؤولون عنهم أمام الله، مسؤولون عن إنقاذهم من هذا التيه، وعن استعادة ثقتهم بكم، وعن بث روح الأمل والعمل في نفوسهم.
ألم تكن فلسطين قضية العلماء الكبرى؟ ألم تكن غزة رمز العزة؟ إن صوت العلماء في نصرة القضايا الكبرى يُعيد للأمة بوصلتها، ويثبت أقدامها على طريق الحق. حين صمت العلماء، تضاعف الصمت في الأمة بأكملها. إن دوركم في نصرة الحق ليس ترفًا، بل واجب شرعي، ومسؤولية تاريخية. كان العلماء في الماضي يقفون حيث يجب أن يكونوا؛ لا يكتفون بالفتوى، بل يشاركون في ميادين الفكر والجهاد.
إن العلماء لا يحتاجون إلى كلمات مديح، بل إلى أدوار حقيقية. اقتربوا من الشباب، وافتحوا لهم أبوابكم. استمعوا إلى همومهم دون أن تعظموها، وأرشدوا خطاهم دون أن تعنفوهم. اجعلوا مجالس العلم ميدانًا لإحياء القلوب قبل العقول. أعيدوا للعلم هيبته، وللدعوة حرارتها، وللإيمان صدقه. الأمة تحتاج إلى قدوات عملية، كما كان الإمام أحمد بن حنبل مثالًا في الثبات، وكما كان الإمام حسن البنا نموذجًا في الجمع بين الفكرة والعمل. العلماء الحقيقيون هم الذين يعيشون مع أمتهم، يشاركونها آلامها وآمالها.
تستحضرني نماذج مضيئة من علمائنا في فلسطين، الذين قادوا المقاومة علمًا وعملًا. علماء كالشيخ عز الدين القسام، الذين جعلوا العلم والجهاد وجهين لعملة واحدة. هؤلاء نماذج تعيد الأمل في أمة تنهض بعلمائها وشبابها معًا. إنكم اليوم بحاجة إلى إعادة بناء جسور الثقة مع شبابكم، وإلى صدارة المشهد مرة أخرى. الأمة تنتظركم.
يا علماء الأمة، أعيدوا النظر في واقعكم، وانهضوا من صمتكم. اجعلوا منابر العلم منصات للتغيير، ومن الفتوى سلاحًا لمواجهة الجهل والتيه. أنتم الأمل في أمة تكابد المحن، أنتم صمام الأمان لشباب يحتاجون إلى قدوة صادقة. إن التاريخ يكتب اليوم بأيديكم، فإما أن تسطروا فيه مجدًا، وإما أن يكتب عن غيابكم. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.