آراء

“الجزيرة محظورة في فلسطين”: خيانة الذاكرة والسردية

يناير 5, 2025

“الجزيرة محظورة في فلسطين”: خيانة الذاكرة والسردية


لا يمكن قراءة قرار السلطة الفلسطينية بحظر وتجميد كافة أعمال فضائية الجزيرة والعاملين معها ومكتبها في فلسطين٬ إلا بوصفه خطوة تتجاوز حدود العبث والغباء السياسي إلى مستوى الخيانة الوطنية واستكمالاً لمهمة الاحتلال في القضاء على أهم حملة الرسالة وحرّاس السردية الفلسطينية والمدافعين عنها٬ وهو خيانة لدماء الشهداء الذين ارتقوا لنقل الحقيقة وفضح جرائم الاحتلال. 


الجزيرة، المنبر الذي وقف لنحو ثلاثة عقود كالسد المنيع أمام محاولات الاحتلال طمس معالم القضية الفلسطينية ورفضت التخلي عنها كما فعل آخرون انحازوا لرواية الاحتلال، تجد نفسها اليوم في مواجهة سيف السلطة بعد بضعة أشهر من قرار الاحتلال بحظرها في الأراضي المحتلة٬ وكأن مقاطعة رام الله تسعى لإتمام المهمة القذرة التي أرهقت الاحتلال وداعميه لسنوات طويلة.


منذ تأسيسها عام 1996، لم تكن الجزيرة مجرد قناة إخبارية ناقلة للأحداث كغيرها٬ بل كانت أبرز الشهود على الحقيقة، ومنبراً رئيسياً للقضية الفلسطينية، وضوءاً يكسر عتمة التزييف الإعلامي وتغييب الحقائق الذي حاول الاحتلال فرضه لعقود طويلة ونجح للأسف فيه عبر تدجين الكثير من وسائل الإعلام ومنها عربية. 


منذ اليوم الأول٬ كانت الجزيرة شريكاً للفلسطينيين في كل شيء حتى الدم٬ وحاضرة دوماً في تشكيل ذاكرتنا وسرديتنا٬ وكذلك وصناعة الوعي العالمي بقضية شعب يسعى للخلاص مع الاحتلال الغاشم.


في انتفاضة الأقصى (2000-2005)، كانت كاميرات الجزيرة عين الفلسطينيين في رصد جرائم الاحتلال، وأيقظت بصوتها العالي ضمائر العالم. كانت عدسة الجزيرة مرآة تعكس نبض الشارع الفلسطيني في أزقته وحاراته ومخيماته. وفي كل اجتياح وحرب شُنّت على غزة منذ عام 2008 وحتى اللحظة، كانت الجزيرة على خطوط النار، توثّق المجازر وانتصار الدم على السيف، وتنقل صرخات الأطفال وتكبيرات الانتصار، وآلام الأمهات وزغاريدهن في جنازات الشهداء.


تحدّت الجزيرة الاحتلال منذ اليوم الأول٬ وقدمت في سبيل ذلك نخبة من الشهداء الذين ارتقوا وهم يحملون المايك والكاميرا كدرع وسلاح٬ على رأسهم الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، الصوت الذي ظلّ لسنوات يوقظ العالم على أنين فلسطين وأوجاعها٬ قبل أن تسكتها رصاصة إسرائيلية غادرة في مخيم جنين عام 2022. تبعها في العدوان الجاري على قطاع غزة الشهداء الصحفيين والمصورين سامر أبو دقة وإسماعيل الغول ورامي الريفي٬ هؤلاء الذين كانوا جنوداً في معركة الكلمة ضد الرصاصة٬ ونعاهم وبكاهم كل بيت فلسطيني.


ثلاثة عقود٬ لم يكن الاحتلال مرتاح البال فيها لوجود الجزيرة في المشهد الفلسطيني٬ لأنها تحدته وكانت نداً له كأنها دولة أو جيش بحاله٬ وكشفت الوجه الحقيقي للاحتلال وعرته أمام العالم. وثّقت الجزيرة المجازر، من جنين إلى رفح، وفضحت الاعتقالات الجماعية، وسياسات التهجير القسري، وجدار الفصل العنصري الحصارات والاجتياحات٬ مثل اجتياح الاحتلال للضفة ومقرات السلطة الفلسطينية ومركز مقاطعتها برام الله في عام 2002 ، كانت عدسات الجزيرة أول من وثق الإعدامات الميدانية التي نفذها جنود الاحتلال بحق أفراد الأجهزة الأمنية٬ وكانت الجزيرة صوت المحاصرين -على رأسهم ياسر عرفات- داخل مقر السلطة في رام الله من قبل شارون. لكن ورثة مشروع عرفات الذين باعوا دماءه ودماء الشهداء يقابلون ذلك اليوم بحظر هذه الوسيلة الإعلامية٬ ويقتحمون مقراتها كما يفعل جنود الاحتلال٬ ويطلقون ذبابهم والمتحدثين باسمهم ليشتموها في المواقع ومنصات التواصل وشاشات التلفاز.


نقلت الجزيرة للعالم صوراً كان الاحتلال يودّ أن تبقى طيّ الكتمان والنسيان، وصنعت عشرات وربما مئات التحقيقات والوثائقيات عن الاحتلال وجرائمه بأثر رجعي٬ منذ نشأة الحركة الصهيونية وبدء الهجرة اليهودية لأرض فلسطين وحروب النكبة وما تلاها٬ حتى شكلت وعينا ووعي أجيال من الفلسطينيين والعرب كما لم يفعل أحد. وساهمت في خلق سردية مضادة للاحتلال عبر منابرها المختلفة وبلغات عديدة بكل حرفية وشجاعة٬ وهو ما أغاظ الاحتلال وداعميه الذين لا يريدون لأي صوت نشاز أن يخرج عن الإيقاع الذي رسموه للمؤسسات الإعلامية. 


وفي ذروة هذا التاريخ المضيء، يأتي قرار السلطة الفلسطينية بإغلاق مكاتب الجزيرة كصفعة على وجه الحقيقة٬ في قرار يعكس حالة الانفصال التام عن نبض الشارع الفلسطيني، واستهتاراً بتضحيات الصحفيين الذين وقفوا في الصفوف الأمامية. فالسلطة، التي من المفترض أن تكون حامية لشعبها وسرديته في مواجهة الاحتلال، تحولت إلى شركة أمنية تنفذ أجندات “إسرائيل” وتحارب الرواية الفلسطينية٬ وهذا أعجب ما قد يمر على الشعوب الواقعة تحت الاستعمار والاحتلال.


قرار سلطة رام الله الذي احتفى به الاحتلال٬ خطيئة سياسية وأخلاقية٬ وهو انعكاس واضح لحالة الضعف والتردي الذي وصلت له السلطة٬ التي تقف اليوم في مواجهة الإعلام الحامي للسردية الفلسطينية بدلاً من مواجهة الاحتلال٬ وذلك بحجة أن هذا الإعلام لم يتماشَ مع أفعالها السلطة في مخيم جنين ولم يبرر لها٬ حيث تقوم هناك بمهمة أخرى عن الاحتلال في اجتثاث جذور المقاومة.


لا شك أن هذا القرار يُضر بقناة الجزيرة كوسيلة إعلامية، ويُلحق الضرر أيضاً بالقضية الفلسطينية نفسها. فإغلاق مكاتب الجزيرة يعني خسارة منصة عالمية حيوية لطالما كانت الصوت الفلسطيني في المحافل الدولية٬ لصالح الاحتلال٬ الذي يرتعد خوفاً من الحقيقة ويسعى لطمس صوت الفلسطينيين واستكمال جرائمه ةون ضجيج٬ لكن في الوقت نفسه هذا القرار يعني أن السلطة تسير بخطى ثابتة نحو العزلة وفقدان الشرعية الشعبية أو ما تبقى منها.


وكما فشل الاحتلال في كسر إرادة الشعب الفلسطيني، ستفشل السلطة في كسر إرادة الكلمة الحرة. وستبقى الجزيرة صوت فلسطين، وستظل القضية الفلسطينية حيّة في قلوب من يحملون الكاميرا كراية، والقلم كسلاح. ولا يمكن لأي قرار من مجموعة متنفذة محمية من الاحتلال ظنّت أن لها دولة وكياناً وشرعية٬ أن يطمس حقيقة جرائمها بحق شعبها٬ وأنها تحولت إلى مجموعة مارقة تماماً كقطعان المستوطنين الذين يغيرون على القرى والبلدات الفلسطينية ويعيثون فساداً في الأرض٬ لأنهم لم يجدوا أسلحة هذه السلطة تردعهم عن فعلتهم٬ بل وجدوا فوهات بنادقها مصوبة نحو صدور أبناء جلدتها في جنين ونابلس وطولكرم.


شارك

مقالات ذات صلة