آراء

ما لم يأتِ من الطوفان بعد!

يناير 5, 2025

ما لم يأتِ من الطوفان بعد!

تعبت غزة، وثقلت المشاهد فيها، وسالت الدماء حتى ضاق بها البحر ذرعا، فلا هو قادر على أن يحملها كلها، ولا الأرض قادرة على تشربها جميعا، وما زالت في السيل بقية من دماء تجري، بعدما سفك الاحتلال كل ما طالت يده، وامتزجت أشلاء البيت الواحد، فلا تعرف إلا من الخرق البالية المحترقة من الأب ومن الولد، ومن الفتاة ومن أمها، ومزق الجيش المجرم الأرواح فأزهق نحو مئة ألف منها، بين شهداء ومفقودين ومن لم تسجلهم الإحصائيات بعد، فيما غاب عنه المراسل والمسعف والكاميرا، وجرح نحو مئة وخمسين ألفا، ليبلغ عدد الذين إما قتلوا أو جرحوا فقط ربع مليون إنسان! ونحن لا نحكي عن جرائم للتتار أو المغول أو محاكم التفتيش أكل الزمان عليها وشرب، بحق بلاد كاملة، والعرب والمسلمون يومئذ يقاتلونهم جميعا، وإنما نحكي عن مدينة واحدة، مساحتها أصغر من أي مدينة عربية أخرى، وعدد سكانها يفيض عن مواطني خليج كامل، وينفرد بها كل قوى الأرض الباطشة، ولا يقاتل معهم إلا نفر قليل من هنا وهناك، لكنهم وحدهم وحدهم!


وعلى الحدود يقتّلون باسم العجز والخسة والخيانة، تعددت الأسباب والعار واحدُ، حيث يجبن القائم على حكم أكبر بلاد العرب أن يفتح ولو هوةً في جدار يغيثهم من خلالها بالماء والغذاء والوقود، يتآمر عليهم تحت الطاولات ويقبض الثمن فوقها، ثم يخرج أمام الكاميرات ليحكي عن الالتزام بالقانون الدولي، بينما توشك “إسرائيل” أن تحتله هو، وأن تغتصب الأمم المتحدة، وأن تقصف الجنائية الدولية، وأن تغتال قضاة محكمة العدل، وتضرب بالدنيا كلها عرض الحائط، لكن العرض، الذي يحكم الجوار، أو الذين بلا أعراض ويحكمون بقاعا كثيرةً حول غزة وفي نطاقها الإقليمي، أجبن جميعا، وألعن، وأخسّ، من أن يحركوا لقمة من ظاهر السور إلى باطنه، وغزة وحدها لا غيرها، الصغيرة للغاية حجما، الأكبر منهم مجتمعين مقاما وعزما وشرفا، وحدها اخترقت الجدار وكسرت الحصار!


يتآمرون عليها، ويأتمرون، ليقتلوها، وهي التي كانت مستعدة في كل مرة أن تهب الجميع من حولها الحياة، لأنها أكثر من يعرف خدعة الحدود، وأكثر من يلعن مكر المحتل، وأكثر من يدرك حيل الاستعمار في  الاستحمار، لكن الحمير لا يعرفون من الأرض إلا البرسيم وطريق القصر الحاكم، والجلوس على العرش في نهيق مستمر، وغزة غزة، تذبح على مرأى الناس ومسمعهم، بكل الطرق إجرامية وقذارة، وتجوع وتعرى، وترتجف بين شوارع العرب لا تجد غطاءً يقيها المطر، ولا خيمةً تقيها الرياح، ولا عمودا ثابتا ترتكن إليه، ولا نخلة فوقها تهز بجذعها، ولا مناصر لها ولو بكلمة حق يناصب فيها “العدو” العداء؛ إلى هذا الحد باتت المروءة عملةً نادرة كأنها من عصر عربي حجري، لا أثر لها إلا على جدران المتاحف!


تباد غزة عن بكرة أبيها، ليس للاستهلاك الإعلامي وإنما حقيقة واقعة، فلم يبقَ في الشمال الصامد المجاهد أي شيء، ولم تبقَ في الأبدان بقعة إضافية لم يصبها الدم والقصف والشظايا، ولم يوجد إنسان واحد لم يجرب الفقد، أو لم يفقده أحبابه، الجميع مسجى في لحده، وإن وقف أمامك وتحرك، فالموت محكوم به على الجميع، إلا أن يأتي الله بأمر من عنده، وعلى ذلك يجاهد المجاهدون ويجتهدون، وهم ينادون أمةً تملك العجز منها بعدما أحكم العدو تعيين قادتها وزعمائها، فأضلوها السبيل، فتعود غزة وتنادي يا رب، وتثمّن بين كل فترة وأخرى مجهودات المناصرين لها بوجه حق.


ذلك المشهد المأساوي بالكامل، المشهد الأكثر مأساوية في التاريخ، ليس لكثرة دمويته، وبشاعة مقاتله، وطول أمد محارقه ومذابحه، وإنما لما أحاط به من جبن وخيانة ودناءة، ذلك المشهد يظنه الحمقى والمغفلون أنه خلاصة الحكاية، وأنه فصلها الوحيد، ولا يعلمون، أو يتجاهلون، أن ذلك ليس سوى مشهد واحد.


ووالله نعلم إنه لمشهد لقاسٍ أشد قسوة، وفقدت غزة فيه والأمة فلذات أكبادها، وخسرت البشرية أعظم البشر، ورحل عن المسلمين أشرف المؤمنين، وقُتل أكرم العالمين، وراح شباب كالرياحين، واقتلعت ثمرة فؤاد الدنيا، ولا يمكن بأي حالٍ عد تلك الخسارات العظام كخسائر عددية، ولا وضعها بسذاجة في ميزان أنها ستعوض بأعداد أخرى، ما ذهب لا يعوض، لكن قد يأتي الله بآخرين يحملون ثأره ويأخذون بحقه، ويسيرون على نهجه، ذلك في ميزان التاريخ، قطعة عرضية من الزمان، فقد مات رسول الله ولم ينتهِ الدين عند قبره، أما على نطاق أحبابهم وأهليهم وغزة نفسها فهم لا يعوضون ولا يقدرون بثمن.


ولكن، والله إنه على عظمة أحزانه ومواجعه ليس سوى مشهد واحد، مشهد للاختبار والابتلاء، فصل يمحص به الله المؤمنين والمنافقين والكافرين، لتكون المسألة أبسط في تحديد مواقعهم فيما بعد، والقادم بعده أصعب على المجرمين، ومع أن الدنيا ليست دار عدل كامل، ولا تنتهي فيها المسائل، فإنها لا تخلو من تأييد الله لجنده، وانتصاره لجيشه، وإمداده لرجاله، وتوفيقه لعياله، وتثبيت الحق في نفوس الساعين له، ولولا ذلك لما بلغ المسلمون كسرى ولا قيصر، ولا الروم ولا تستر.


فالصبر الصبر، والإعداد الإعداد، ولا يذهلنكم تعالي الأمواج عما سيأتي خلفها من موجات أعظم، وإن كان في الأولى مقتلة للمسلمين والمؤمنين والموحدين ودماء تسيل من كل جانب، ففيما بعدها قرات للعيون، وشفاءات للصدور، من الظالمين المتمادين الذين أمهلهم الله كثيرا، وبغوا في الأرض عقودا طوالا، فهل يبلغون أمدًا أطول بعد طوفان لم يحركه إلا الله ولم يجرِ إلا بإذنه، فاستبشروا -أهل غزة- ببيعكم الذي بايعتم به، وأعدوا -أهل الحق- ما استطعتم من قوة، ولا تعجلوا -أهل المظالم- إنما يعد لهم الله عدا، وانتظروا -أهل البغي- إنما معكم منتظرون!



شارك

مقالات ذات صلة