آراء
تُفلِتُ الأمنياتُ عقال الفكر، كلّما استحالت، حتى ينتفي تمامًا، ما لم ننتبه، وتعمينا الرغباتُ عن الأدوار، ما لم نعِ بما نحنُ عليه، ولو على غير المراد منّا لأنفسنا، ولو لن نغيّره الآن، المهم أن نواجه ذواتنا بحقيقته -هذا التناقض- كي لا نطبّع معه ثمّ ونعتقده صحيحًا في غفلة ارتياحٍ عابرة.
نتمنى زوال السلطة لما ارتكبت من جرائم، ومازالت، وستظلّ ما بقيت هي وما بقيت القواعد التي حكّمتها قائمة؛ فتعمينا الثاراتُ لا عن الغايات فقط، إنّما حتى عن الآثار التي قد تنسفُ المراد والمراد لأجله مطلقًا، لكنّها قد تبرد النار التي تشتعل في الصدور، فنكتشفَ متأخّرًا أنّ الشعور بالفرح لدوران الدائرة أو حتى الحزن على دورانها ذاك خالطَ الانحياز المبني على اعتقادٍ فشوّهَه، وأوقعَ أصحابه في تناقضاتٍ مخزية لا تصحّ ولا تليق ولا تتماشى على أي صورةٍ مع ما يدّعونه عن أنفسهم وأدوارهم.
التغيّرات الحاصلة في سوريا على ما فيها من مباغتة للكثيرين، إلا أنّها فعّلت الكثير من الإنذارات حول أدائنا وسلوكنا ووعينا خلفهما كمتفرّجين على الهامش، لا ينتفي الأثر عنّا دون أن نكون مصدر تأثيرٍ نحن، هنا دفاعًا عن “الدولة الوطنيّة” التي كأنّهم اكتشفوا سقوطها بسقوط الأسد، غافلين عن وقوع السقوط وتحققه تمامًا منذ عقد كاملٍ أو يزيد، ولو تحقّق بتمام السقوط الأخير واستيلاء هيئة العمليات المشتركة على الحكم مزيدُ من الانهيار خاصّةً في صعيد توسّع الاحتلال (الصهيوني، وربّما التركي)، لكنّها تجليات السقوط وأصداء حصوله القديم، لا طوارئ بمعطيات جديدة.
وهناك ابتهاجًا لـ “انتصار الثورة” السوريّة، تلك التي يعرفون كما يعرف الجميع أنها لم تكن طرفًا في المآل إلا بقدر ما كانت ماضيًا شرارة اشتعال الأوضاع، ربما انخرط بعض ناسها في التنظيمات التي سيطرت عسكريًّا الآن، لانتمائهم أو رغبتهم في الانتقام على ذات صورة الجريمة، لكن “الثورة” لم تكن هنا، لحظة المواجهة العسكريّة ولا لحظة السقوط، اللهم إلا احتفالاً وفرحًَا بسقوط الطاغية الذي سحقَ موجتها الأولى، وبعثًا للأمنيات الفائتات في بناء مجتمع ديمقراطيٍّ مدنيٍّ حرّ.
وكلا المعسكرين تجاهل الحقائق الواقعةَ على الأرضِ، رغم تراكم بعضها لسنين طوال، وكلا المعسكرين تعميه انفعالاته الشعوريّة عن معطيات اللحظة، فينطلق من تصوّراته العاطفيّة تلك لبناء مستقبلٍ كاملٍ، لن يفيق من ضلالته إلا على فادحةٍ تشبه التي كان يبكيها على مدى السنين الفائتة.
خطيئة المحور -محور المقاومة- لا يجب أن يدفع ثمنها السوريون ولا أي شعب آخر، لا باحتمال سلطة مجرمة كسلطة الأسد (الابن والأب) ولا في الملام على صورة الحكم الجديد وآثار سقوط الأسد، فهذه نتيجة وجوده ثم انسحاب جيشه وميليشياته (أمكن أن تختلف طريقة الانسحاب/إخلاء السلطة، لو أراد الأسد ولو عبر مشغّليه الروس والإيرانيين لضمان عدم التمدد الصهيوني المتوقّع)، وخطيئة التبعات لا يتحمّلها الشعب السوري، ولا حتى الجماعات التي سيطرت على الحكم، وكلّه نتاجُ سحق الثورة لا قيامها، كما أنه الآن نتاجُ جرائم السلطة لا الردود عليها (طبيعيّها ومختلفها، وطنيّته ومدفوعها).
وهذا لا يغيّر شيئًا في موقفي المناهض للسلطة الجديدة، منهجًا وتكوينًا ومشروعًا وتحالفات، ولا يخفي شيئًا من مخاوفي نحوها، لا في تفصيلات الحكم والموقف من الحقوق الأساسيّة فحسب إذ ليس هذا موضعه ولا توقيته الأنسب، إنّما-قبل كلّ شيء- في العلاقة مع العدوّ باعتباره عدوًّا ومع المقاومة باعتبارها امتدادً.
لكنّها كذلك -تلك الآثار- لا تبدّل أو تخفّف موقفي تجاه سلطة الأسد وحلفه، لا في تجريمه ولا في وجوب إسقاطه، ولا في الحقّ في الثورة عليه (تمنّيتُ لو يلقى عقابًا عادلاً على ما ارتكب بحقّ سوريا وأهلها قبل أن يفرّ لاجئًا جبانًا إلى مشغّليه في روسيا)، إذ يستوي عندي الوجود الأجنبي في سوريا كلّه، ما وجّه سلاحه لسوريٍ واحد، أو انتهك حقّ سوريّ واحد، تحت أي مبرر ولو كان دعم المقاومة والحفاظ على طريق إمدادها، وهو المعسكر الذي أنتمي له وأناصره وأدعمه، كما أعتبر خسارة طريق الإمداد واحد من أهم الخسارات للمقاومة في لبنان وفلسطين وغيرهما مطلقًا (تصريحات الشيخ نعيم قاسم الأمين العام الجديد لحزب الله وغيره من قادة المقاومة حول خسارة المقاومة المباشرة مع سقوط الأسد، لا تمنح معطيًا جديدًا، إنما تؤكّد على واقع لا ينكره إلا جاهل)، فدعم المقاومة ليست مبرّرًا للإجرام بحقّ الناس، والأصل أن ينتقي المعسكر حلفاءه ويصحح خطاياه البنيويّة، لا أن يحمّل الشعوب فاتورتها.
لكن الحريّة على الجانب الآخر لا تبرّر التحالف مع العدوين (الصهيوني، الأمريكي) على أي وجه، كما لا تبرر محاربة المقاومة أو الشراكة في حصارها، ولو تأمينًا للذات أو حفاظًا على المصالح وتجنّبًا لمعارك ليست على قائمة الاهتمام؛ ليس مطلوبًا منك أن تحارب العدو – وإن كان واجبك لأن جزءًا من البلد محتلّا، والمزيد ينهشه العدو، لكن على الأقل لا تكن أداتهم في التخلّص من المقاومة وحركتهم في الإجهاز عليها.
وأخيرًا: وجب التذكير بأنّ هذه المأساة كلّها، قائمها وقادمها، ليس إلا حصاد تمسّك مجرمٍ بكرسيّ الحكم، وعدائه للشعب الذي أراد الحريّة، فجلب الموت والخراب والدمار والتفتت والاحتلال كذلك لبلده، ورغم ذلك سقط غير مأسوفٍ عليه، جبانًا كما عاش، لكن بعد أن أسقط البلد كلّه، وربّما أسقط معه مشروعًا مقاومًا كان هذا المجرمُ قائمًا على طريق إمداده.
لعلّكم تعقلون