آراء

تحرير سوريا: خطّة الله وبداية الأمور العظام

ديسمبر 10, 2024

تحرير سوريا: خطّة الله وبداية الأمور العظام

بلاد الشام، أرض المحشر والمنشر، أرض الإيمان في زمن الفتن وعقر دار المؤمنين، وأرض الملاحم والخلاص، تبدأ منها النزاعات وفيها تنتهي، ومنها تولد وحدة الأمة، هذا ما أخبرنا به رسولنا ﷺ.

تحررت سوريا في الثامن من ديسمبر، في ذكرى انطلاق انتفاضة الأقصى، ويا لها من مصادفة تبعث الأمل في نفوس، ليتّكئ عليها من أرهقه اليأس في بلادنا. انتفاضة شعبين كان للأطفال دور بارز فيهما؛ واحدة كان الأطفال فيها هم الجنود، يحاربون المحتلّ بالأرض نفسها: الحجارة، والأخرى كانت شرارتها أطفال يلهون ويبوحون للجدران بما لا تستطيع ألسنة الكبار قوله لألًا تقطع. ولعلّ الصادم أنّ الثورة السورية ذُكرت على لسان الرّسول ﷺ: {تَكُونُ فِتنَةٌ بِالشَّامِ، كَأنَ أَوّلّها لعِبُ الصِّبيَانِ}.

وللتذكير بأهمّية وحدتنا، كان رسولنا الكريم ﷺ يسمّيها بلاد الشام، وإن خصّ مناطق معيّنة فكان يذكر أسماء المدن فيها، وليس الدول! وهذا برأيي يلمّح بأهمّية وحدة شعوب هذه المنطقة، ولو أنّ هذا الكلام غير صحيح لما قسّمونا بحدود سايكس بيكو، فهم يعلمون جيّدًا خطورة وحدتنا، وأهمّية منطقتنا دينيًا وفي ميزان القوى السياسية، فالنزاعات لطالما كانت عليها، ولازالت إلى يومنا هذا، وستبقى حتّى ينادي منادٍ من السّماء كما أخبرنا سيّد الخلق عليه الصلاة والسلام. وفي هذا المقال سأخدش السّطح قليلاً فقط كتهيئة تساعدكم بفهم الأحداث وتحليلها وربطها.

تمهيد للأمور العظام

أهل بلاد الشام تحديدًا اصطفاهم الله -على مرّ العصور- في هذه الدنيا، فابتلاهم بالمحن والفتن والنزوح والحروب والقتل وجميع صنوف الموت والعذاب دونًا عن غيرهم من أمّة محمّد، ابتداءً بولادة الأديان السماوية فيها والنزاعات التي قامت عليها بسببها، من حروب صليبية وانتداب، ثمّ احتلال صهيونيّ من جهة وحكّام طغاة فعلوا الأفاعيل بالأبرياء من جهة أخرى. تأسيسًا على ذلك، يقول نبيّنا الكريم في الشام: {عَلَيْكَ بِالشَّامِ؛ فإِنَّهُ خِيرَةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيُسْقَ مِنْ غُدُرِهِ، فإِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ} رواه أبو داود، وغيره. فقد أمر سيّد الخلق عليه الصلاة والسلام أن استوصوا بأهل الشام خيرًا، فإنّ الشام وأهلها خيرة الله من أرضه، وهي مأرز الخلافة، ومنشط الدعوة، وبوادر النفس الرحماني، وأهل الشام كفالة الله في أرضه، والله إذا أحبّ عبدًا ابتلاه، وقد أحبّ أهل هذه البلاد فعلاً فابتلاهم، فقد صحّ في الخبر عن أمّة محمّد ككلّ: “أمتي أمةٌ مرحومةٌ ليس عليها عذابٌ في الآخرةِ، عذابُها في الدنيا: الفِتنُ والزلزالُ والقتلُ”.

ولعلّ ما شهدناه منذ عام ونيّف إلى الآن في غزّة هاشم أكبر دليل على ذلك بعد أن اشتدّت عليهم المحنة واضيقّت عليهم الدنيا حينما تخلّى عنهم العالم أجمع، حتّى ظنّوا أنّ الطوفان قد أغرقهم هم بدلاً من عدوّهم، إلى أن انبثق امتداد لهذا الطوفان في سوريا من حيث لا نعلم، ليأخذ بحقّ شعب ما كان يُرى لظلمه نهاية، وليعطي الأمل لبيت المقدس وأكنافه. وقد تنبّأ رسولنا الكريم بهذا الحدث التاريخي ليخبرنا بأنّه بشارةٌ لأهل الشام الذين قوتلوا وهجّروا من ديارهم، وسجنوا بغير حقّ، بأنّ الفرج قريبٌ جدًا، ليعلموا أنّ ما أصابهم ما هو إلا توطئةٌ لأمرٍ عظيمٍ جسيم، به ستتغير معالم المنطقة كلّها، والخطط جميعها ليعاد توجيه البوصلة فتتّزن المعادلة، ويعوّضهم الله بعوضٍ لا قبل لكم بشكره، ألا وهو الإيمان والثبات والخلافة المبدّلة لحكم الطغيان. لكنّ هذه الخلافة، وهذا الخير كلّه قد تسبقه بعض الصعاب الأخرى، قد يتوقّعها أيّ عقل فطن قارئ بأحاديث الرسول ﷺ، عالم بتاريخ أرض الشّام وما مرّت به من تقسيم، وواعيًا بحجم الأطماع الخارجية التي تتربّص بسوريا من الشمال والجنوب والشرق والغرب، حرفيًا!

الحرّية حقّ الشعوب!

مازلنا نسمع أصواتًا خافتة أبت أن تفرح لذاك السجين الكهل الذي خرج يسأل الثوّار إن كانوا جيش صدّام، مستنتجين أنّه اعتقل منذ مجزرة حماة عام ١٩٨٢م، أو تلك الأسيرات اللاتي أسرن مع أطفالهنّ، أو لربّما ولد أولئك الأطفال في تلك السجون، مضيفين بذلك طرق تعذيب أخرى لا يقبلها العقل، أو أولئك العائدون إلى بيوتهم التي هُجّروا منها منذ ١٣ عامًا، وأهليهم الذين حرموا رؤيتهم وهم في نفس البلد! الحرّية من حقّ الشعب، وليس لأحد أن ينتقد أو يلوم شعب لمَ يقاوم من أجل حرّيته! أمّا من يقول أنّها مخطط لها بسبب الماضي الذي ربط بعض التنظيمات المشاركة في ردع العدوان بجماعة داعش وتنظيم القاعدة، فلا تتسرع بالحكم على شيء ولننتظر حتّى يهدأ ذاك الشيخ الكهل ويستوعب عقله أنّه في زمن غير الذي سُجِنَ فيه، وحتّى تلتئم جراح تلك القوارير، وحتّى تهدأ دموع الأحبّة بعد فراق دام دهرًا.. لننتظر حتّى يهدأ الغبار وتتضّح الصورة! فلا يمكن للعربيّ والمسلم أن ينتصر لأخيه وهو مقهور مظلوم في بلده! فكيف لجائع أن ينتصر لجائع؟ وكيف لأسير أن ينتصر لأسير؟ وكيف لمقهور مقطوع اللسان ومسلوب الديار، أن ينتصر لمن يُباد؟

نعم، بشّار الأسد كان شوكة في حلق الكيان الإسرائيلي، ورافضًا لسياسات أمريكا، لكنّ هذا لا يشفع لما فعله هو ووالده بالشعب من جرائم تُبكي الحجر وتدمي القلب! وكونه عدوًّا لعدوّنا، لا يعني أنه صديقٌ يحبّنا، ولا يعني أن نتغاضى عن معاناة إخوتنا، ولا نفرح لفرحهم بولادة بلادهم من جديد، فهذا كلّه من غير الأدب صدّقوني! وتذكّروا دائمًا يا من تقولون أنّها خطّة صهيوأمريكية: إن كان كذلك، فحتّى خططهم ومكرهم هذا، ما هو إلّا من ضمن تدابير وحكمة الله لنا جميعًا حتى يصل الأمر إلى حيث أراد هو لا هم، فهم جزء من منظومته الإلهية التي كُتبت قبل بدء الخلق.

خطّة الله وبداية الأمور العظام

السّنة النبوية مليئة بذكر بلاد الشام، تحديدًا دمشق وحلب وبيت المقدس. فمنها بداية الأمر وفيها نهايته، ومنها بدأت فتنة الدهيماء منذ ١٣ عامًا وفيها سيطفئها الله بظهور المهدي، وما الأحداث الحالية سوى إرهاصات لهذا كلّه والله تعالى أجلّ وأعلم. وفي حديث آخر: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للصحابة: {“عَلَى آخِرِ أُمّتِي تَأتِي الفِتَنْ، وَمِنْ أَشَدِّهَا ثَلَاثُ فِتَنْ: حَرْبٌ فِي الشَّامِ، وحَرْبٌ فِي بِلَادِ الرَّافِدَينِ، وَحَربٌ فِي اليَمَن”. قالوا: وَأَينَ حَقّ الجِّهَادِ يَا رَسُولَ الله؟ قَال: “عَلَيْكُم بِالشّامِ”. قَالُوا: وَمَا بَالُ الرّافِدَينِ؟ قَال: “سَتَفِيضُ فِيهَا نَهْرُ الفُرَاتِ دِمًاءً”. قالوا: وَمَا بَالُ اليَمَن؟ قَالْ: “اليَمَن كُلّمَا اشتَعَلَتْ فِتْنَةً أَطْفَأَهَا الله”. ألم يحدث هذا كلّه؟ وبموازاة ذلك، فإنّ سنن التدافع تكون في بلاد الشام أشدّ كما نرى ولهذا تكون كلّ هذه الحروب والابتلاءات متجددة فيها دون غيرها من البقاع عبر الأزمنة، وإسنادًا لذلك، أقرّ رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام بأنّ إيمان الأمة ورسالة الإسلام يستقرّان فيها، ولابدّ أن يدفع الخير فيها الشرّ ليبقى الإيمان في أمّة محمّد، فعن معاويَةَ بن قرةَ، عنْ أَبيه قال: قال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: {بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِه، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ} رواه الإمام أحمد (21733) ، والفسوي في ” المعرفة ” (2/290)، وحديث آخر: {إذا فسد أهْل الشَّامِ فلا خيْرَ فيكُم} رواه الترمذي.

وأمّا عن فتنة الشام التي بدأت منذ ١٣ عامًا، فهي أعظم وآخر الفتن قبل ظهور المهدي استنادًا لأحاديث كثيرة للرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم ومنها: {تَكُونُ فِتنَةٌ بِالشَّامِ، كَأنَ أَوّلّها لعِبُ الصِّبيَانِ، تَطْفُو مِنْ جَانِبٍ وَتَسْكُنُ مِنْ جَانِبٍ -كُلّمَا سَكَنَتْ مِنْ جَانِبٍ اشْتَعَلَتْ مِنْ جَانِب- فَلَا تَتَنَاهَى حَتَّى يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ الْأَمِيْرَ فُلَاَن.} -معجم أحاديث الإمام المهدي ج1 ص 406 الحديث 266-. وأمّا حديث قد يمهّد لكم فهم الأحداث الجارية والقادم منها: عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  {يَخْرُجُ رَجَلٌ يُقَالُ لَهُ السُّفْيَانيّ فِي عُمْقِ دِمَشق، وَعَامّة من يَتْبَعَهُ مِن كلب، فَيَقتلُ حَتّى يَبْقر بُطُوُنَ النّسَاءِ، وَيَقتُلَ الصّبيَانَ، فَتَجمَع لَهُم قَيس  فَيَقتُلُهَا، حَتّى لَا يمنَعَ ذَنبٌ تَلعة، وَيَخْرُجُ رَجَلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فِي الْحرةِ ، فَيَبْلُغَ  السّفْيَانيّ، فَيَبعَثُ إِليَهِ جُنْدًا مِن جُندِهِ فَيَهزِمَهُم، فَيَسيرُ إِليَه السُفيَانيّ بِمَن مَعَهُ حَتّى إِذَا صَارَ بِبيدَاءَ مِن الأَرْضِ خسفَ بِهِم ، فَلَا يَنْجُو مِنهُم إِلّا المُخبِرَ عَنهُم} أخرجه (ك) الحاكم، وهذا الحديث تحديدًا سيحتاج شرحًا دقيقًا وربطًا بالأحداث لكن ليس في هذا المقال. وأمّا عن الخير القادم لبلاد الشام خاصّة والأمة عامّةً، فسيكون بعد فاتورة تبقّت لنا لا يعلم بثمنها إلّا الله، لكنّه قريب جدًا بإذنه تعالى، فعن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتخرج الماشية وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانيًا، -يعني حججاً-} رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني.

شارك

مقالات ذات صلة