آراء

الأستانة: حكايات من دار السعادة

ديسمبر 4, 2024

الأستانة: حكايات من دار السعادة

مع تدفق الأخبار السياسية وعودة اسم إسطنبول على شريط العاجل من الأخبار، وجدت نفسي أحنّ إلى منظر البوسفور الذي يشعّ في النفس هدوءًا كبيرًا وراحة بال، وينظر الإنسان إلى لونه الأزرق ويمتع به عينيه وينزعه من الهموم إلى جمال امتداد البحر في الأفق..

 

مدينة اسطنبول تتحول في أوقات الازدحام إلى فصل من جحيم دانتي، ومن عذابات الحياة عندما تعلق على طرقها، وتسير السيارات فيها بسرعة السلحفاة، وتعود مُنهَك القوى من انتظار المسافات، داخل أحياء سكنية بعيدة عن طراوة البحر وجمال الطبيعة.

 

لا أشعر بعظمة إسطنبول إلا وأنا أراها تغسل قدميها أمام البوسفور، ساعتها استشعر عظمة هذا الممر المائي الذي حوّل المدينة الضيّقة المزدحمة إلى أفق رحب بين زرقة البحر واتساع السماء، جعلها منفتحة وتتنفس، وقسَمها نصفين بين قارّتين لتسافر فيها وأنت ما زلت بها، دار السعادة ومدينة الحزن الشعري.

 

وقد أصبحت أتتبع أوصاف إسطنبول في كتب الرحالة والأدباء العرب وكيف نظروا إلى هذه المدينة، فأنا أسير في نفس الأماكن التي ساروا فيها وأعود إلى الماضي حتى أشعر بتفاعل العرب مع هذه المدينة. وقد وقع في يدي كتاب بعنوان «جولة في ربوع أوروبا.. بين مصر وأيسلندا» للرحالة محمد ثابت، وهو رحالة مصريّ يعشق السفر والرحلات ومهتم بالجغرافيا، وصل إلى إسطنبول في يونيو عام 1930. ويقدِّم نصُّ رحلته شهادةً ممتعة عن تفاعله مع المدينة.

 

رست سفينة الرحالة محمد ثابت في مدخل القرن الذهبي قرب القنطرة «جالاتا»، ودخل البوليس لفرز جوازات السفر بدقة متعبة، والمسافرون الذين أغفلوا التأشير على جوازاتهم لم يُسمح لهم بالنزول إلى البر ساعة واحدة إلا بعد دفع رسم قدره جنيه مصريّ.

 

وصل ثابت إلى منطقة بيرا في الشق الأوروبي من إسطنبول، ولاحظ نظافة المنطقة، على أنّ طرقها كانت ضيّقة تُرصَف بالأحجار الصغيرة، وتعلو آونة وتهبط أخرى، وهي غاصّة بالحركة التجارية، والترام يتلوّى فيها ليّات مدهشة، ويتسلق رُبًى ثم يهوي بانحدار مخيف. وصل ثابت إلى حي كثير الملاهي اسمه تقسيم، تتعدد به المتنزهات والمقاهي ودور الموسيقى والغناء، وفي تقسيم تسمع أنغامًا شرقية جميلة، والعود والقانون من الآلات الموسيقية الهامة لدى الأتراك.

 

سار ثابت في أحياء إسطنبول التي ذكّرته بتلك الحوانيت جهة خان الخليلي والخيّامية في القاهرة. وأجمل ما زاره المساجد الفاخرة المتعددة التي تشمخ بقبابها ومآذنها العديدة، وفي مقدمتها مسجد أيا صوفيا، وبُهِرَ به وقال عنه: «ذاك الذي يعجز القلم عن وصف إبداعه الفني وزخرفه الجذاب في القبة الفخمة، والأعمدة الشاهقة، والفناء الرحب».

 

لاحظ ثابت أن الأتراك يبدو عليهم النشاط جميعًا، وتفيض نفوسهم بالحماسة الوطنية، فالكل يتعصب لقوميته إلى درجة الجنون. لبسوا القبعات جميعًا، وأسفر نساؤهم وخلعن الحجاب، فلا يفرقهم المرء عن سائر الأوروبيين. والمحال التجارية تكتب عناوينها بالتركية في حروفها اللاتينية الجديدة، ولا يُسمَح لأحد أن يكتبها بغير لغة البلاد.

 

ويبدو أنه رأى مصطفى كمال لأنه يصفه بأنه يجوب الطرق في سيارة عادية من غير حراس، وكان كلما تعرَّفه القوم على بُعد هاجوا وصاحوا قائلين: «الغازي، الغازي»، مهللين مبتهجين. وأتاتورك محبوب منهم إلى حد التقديس. على أن الأتراك -كما يذكر ثابت- يعوزهم المال على ما يظهر من الحالة الرثة لكثير من أبنائهم، فهم لا يزالون يعانون من ألم ما أعقبته الحرب من سيئات.

 

في معظم شهادات الرحالة والأدباء عن إسطنبول يتوقفون أمام جمال المدينة وروعة الطبيعة، فقد ركب ثابت الباخرة وهي تشق عباب القرن الذهبي، وأمامهم مدخل البوسفور. لندعه يصف المشهد: «كانت الطبيعة تتجلى في جمال فتان من رُبًى ووهاد تُكسى بأشجار الفاكهة والزيتون في خضرة قاتمة، وفيلّات أقيمت على درَج المنحدرات بِسُقُفها الحمراء المنحدرة، ومآذن المساجد تناطح السحاب. 


وكان البوسفور آونة ينقبض ويختنق، وآنًا ينفرج وينبسط في تعرج خفيف… ولبثنا في تلك الجنة الخلابة عشرين ميلًا وبيوت الآستانة تمتد على الجانبين الأوروبي والآسيوي، ولفتَ نظرَنا القصر الشاهاني المشرف على الماء في الجانب الأوروبي، والحق يقال: إنّ هذا المنظر لا يعدله منظر في العالم أجمع، فهو يفوق سويسرا وجبالها جمالًا وروعة».

 

وقد اشتغل عارف حجاوي أيامًا بشعر بعض الجاهليين والإسلاميين فأرهقته لغتهم العتيقة وأتعبه تفلية المعاجم، فقال: “أُعطي نفسي إجازة”. فهل يسافر ويسيح؟

 

وهنا إجابته من مطلع فصل البهاء زهير في كتابه “تألق الشعر”: «لست أخا سياحة ولا صاحب متاحف ولا معالم. حططتُ يومًا على إسطنبول ست ساعات بين طيرة وطيرة، فرأيت الإضاءة في المطار خافتة، فانقبضتُ، فاشتريت تأشيرة، ومضيت إلى المدينة. قصدت آيا صوفيا، واشتريت تذكرة دخول من كشك على مدخلها، ودخلت، اشرأببتُ ورأيت أسماء الراشدين، ثم أطرقت ورأيت تحت قدمي البلاط الحجري العتيق، ثم… خرجت مسرعًا، وعند البوابة فتح صاحب الكشك كفَّيه رافعًا كتِفيه مستغربًا مستهجنًا، يقول بلغة جسمه: دفعتَ كل هذه الليرات على خمس دقائق!

 

ثم إني شربت قهوة، فقط كي أسجل في تاريخ حياتي أنني شربت قهوة تركية في تركيا، ولا أذكر من تلك القهوة إلا سعرها الغالي وفنجانها الأنيق، وأنا -وكثيرون غيري- يشربون الفنجان قبل القهوة، فالقهوة مشروب سخيف لا يعدل الدماغ -فتلك خرافة- ولا يُميله، إذ القهوة الأخرى هي التي تميله، فإذا قدمت قهوة البُنِّ في فنجان غريب فإنما تُشرب لفنجانها.

 

ورجعت إلى مطاري راضيًا بكآبته، تاركًا إسطنبول لمن حباهم الله موهبة الاستمتاع بالسياحة».

 

أحمد أمين في إسطنبول

 

يحكي أحمد أمين في مذكراته “حياتي” عن قصة ذهابه إلى تركيا قريب من زمن زيارة محمد ثابت لها، فقد زارها عام 1928، وهو مدرس بكلية الآداب، استدعاه أستاذه لطفي السيد مدير الجامعة، وقال له إن “البرنس يوسف كمال يودّ البحث في مكتبات الأستانة عن كتب جغرافية قديمة، وبخاصة كتاب بطليموس في الجغرافيا”، وإنه “طلب مني أن أختار له اثنين فوقع اختياري عليك وعلى الأستاذ عبد الحميد العبادي”، فتردَّد أحمد أمين بعض الشيء لكن في النهاية وافق.

 

وشجَّع أحمد أمين على القبول أنه منذ الصغر كان يسمع عن إستانبول وعظمتها وأبهتها، ولها في نفسه صورة عظيمة فخمة، فكل حين يذهب الخديو عباس إلى إستانبول ويعود من إستانبول، وأعيان مصر يفخرون بسفرهم إلى إستانبول، وأحمد شوقي في شعره يُشيد بذكرها، ناهيك بالباب العالي والقصر الشاهاني والبوسفور وبحر مرمرة والسلطان عبد الحميد في قصر يلدز ونحو ذلك… كل هذا شوَّقه إلى رؤيتها.

 

أضف إلى ذلك ما وصل إلى مسامع المصريين من ثورة مصطفى كمال أتاتورك وقلبه النظام الاجتماعي رأسًا على عقب وما كان له من أثر، فكان يسمع ذلك ويشتاق إلى معرفة كنه هذا الانقلاب ومداه وصلاحيته.

 

كان أحمد أمين في عصر الانفتاح على الغرب، والعائدن من الخارج بعد أن ركبوا البحر يعودون إلى مصر ممتلئين بالإعجاب بما رأوا من مدنية وحضارة وعلم ومناظر طبيعية، ويملؤون أفواههم بالكلام عمَّا شاهدوا، والإعجاب بما رأوا، والاحتقار لما يرون في مصر، لهذا تَشجَّع أحمد أمين على الرحلة والسفر والتجريب، وإن كانت معظم رحلات أهل جيله إلى أوروبا، فرحلته هنا مختلفة إلى إسطنبول، المدينة التي كانت وجهة في الجيل الذي قبله، ولا يستطيع التعرف عليها في كتاب من نوع أدب الرحلات، فهو يقول لنا إن “الرحلة إذا تحولت إلى كتاب ذهبت حياتها وقلّ خيرها وأصبحت عقلًا لا قلبًا، ومعلومات لا إحساسات، والرحلة الحقة ما جدَّدَت النفس وأحيت القلب”.

 

مكث أحمد أمين في رحلته هذه إلى الأستانة أربعين يومًا، لم يكن أحمد أمين رأى البحر من قبل إلا من شاطئ، أما داخله وعظمته وتقلباته فلم يرها إلا اليوم. رأى البحر عظيمًا جميلًا أنيسًا في النهار، ورآه جليلًا مَهِيبًا موحشًا في الليل، وشعر أحمد أمين نحو البحر بذلة أليمة أو ألم لذيذ، كشأنه عند رؤية أي منظر طبيعي جليل، كغروب شمس أو جبل ضخم أو أمام السماء في ليلة تلمع نجومها. ولعل سبب اللذة ما يشعر به في هذه المناظر من جمال، ولعل سبب الألم ما يشعر به نحو نفسه أمام هذه المظاهر من ضعة.

 

تَجوَّل أحمد أمين في أنحاء إسطنبول، وسكن في بيت من بيوتها. وصُدم في أول الأمر عند رؤيتها، فلم يجد لها من الجلال والروعة ما سبق أن رسمه الخيال في عقله، إنما أيقن بجمالها وروعتها لمَّا شاهد ضواحيها، وركب البحر إلى أطرافها.

 

وأعجبه في الأتراك خلقان لطيفان: نظافتهم وهدوؤهم. ولعل ما لفت نظره إلى هذين الخلقين سوؤهما في مصر، فالعناية بالنظافة ضعيفة، وكذلك الشأن في الهدوء، فمصر في عهد أحمد أمين حُرمت هذا الهدوء في القهوة وفي الشارع وفي الترام وفي كل مجتمع حتى البيت.

 

أما الهدف العلمي من الرحلة فقد تحقق، فأحمد أمين يذهب كل يوم صباحًا ومساءً إلى مكتبات الأستانة، وقد كان هذا عملهم الرسمي في الرحلة، وما أثقل الرسميات! إنها عمل آلي لا دخل للقلب فيها، فقد قلب أحمد أمين الكتب وتغلغل في المكتبات ودوّن أسماء الكتب القيمة التي عثروا عليها ووصفوها وقيدوا أرقامها، ولما عادت البعثة إلى مصر قابلوها بما في دار الكتب واستبعدوا الموجود وكتبوا تقريرًا بما عثروا عليه من جديد، وأودعوا منه نسخة في دار الكتب لتستفيد منه، وقدموا “نسخة أخرى لسمو الأمير صاحب الفضل على الرحلة”.

 

إنما كان أهم ما في رحلة أحمد أمين يوم يخرج لا لغاية، ويتجول في الشوارع لا لغرض، ويزور القرى والضواحي ليتفتح قلبه، ويرى الناس غادين رائحين وهو مندمج فيهم لا يعرف أحدًا ولا يعرفهم أحد، فيعجبهم منظر ويقف عنده ما شاء ويسير حتى يتعب ويركب حتى يمل ويخزن في نفسه ما يعي وما لا يعي. وقد يسمع كلمة عابرة من رجل تدلّه على الشيء الكثير.

 

ويرى أحمد أمين في الأستانة رجلين ألمانيين مستشرقين يعيشان للكتب العربية، لا لذة لهما إلا هذا في الدنيا، صباحهما في المكاتب ومساؤهما على مكتبيهما يقرآن ويصحِّحان. أحدهما يحضر بحًثا في المقامات، والثاني مشغوف بكتب المذاهب الدينية، فهو ينشر كتابًا لأبي الحسن الأشعري، ويرى فيه الأمرَّين في تصحيح جُمَله وتفهُّمها.

 

خير أوقات أحمد أمين حين يخرج من الأستانة إلى الضواحي، فيومًا يركب وابور البحر في البوسفور إلى منطقة “شرشر صو”، وكانت رحلة ممتعة رأى فيها جمال البسفور وما حوله، والمساكن منتثرة في الجبال المزروعة على شكل مدرج، والجبال مكسوة بالأشجار، أشجار الكريز، والبندق، والجوز، وعيون الماء تنبع فيه فيخرج منها ماء بارد عذب زلال لذة للشاربين، وفي الطريق بلاد يمر عليها وابور البحر، فيقف عندها، فيجدون سوًقا نظيًفة فيها ما يحتاج إليه الإنسان من فاكهة نظيفة وفطائر وبقول ونحو ذلك.

 

ويرى هذه المشاهد ويقارن دائمًا بالحال في مصر، فهو يلاحظ حرية النساء والسفور الجديد، ويرى مرحهن، ورقص الفتيات في الشارع، وغناءهن في المقاهي، كأنهن سجينات خرجن من سجنهن بعد طول العذاب، ورأين أهلن بعد طول الغياب، وقد حدثت في تركيا انقلابات اجتماعية خطيرة أثارت انتباه هذا الجيل، لأن تركيا أول بلد إسلامي نزع هذا المنزع وجرّب هذه التجارب، فقد خلعت الخليفة وألغت الخلافة، وألغت وزارة الأوقاف وسمحت بالسفور، وغيَّرَت كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، وهذه المظاهر أراد أمين أن يفهم أثرها ويُطيل التفكير بها، أيها يصلح لمصر وأيها لا يصلح… وهذا الاكتشاف للآخر ليس غريبًا على هذا الجيل الذي تَعرَّف الغرب والعالَم وأخذ يفكّر كثيرًا لماذا تَقدَّم الغرب، وتأخر الشرق.

 

هكذا أكون حكيت لك قصة الرحالة محمد ثابت الذي ساح في أرجاء المعمورة، وقصة عارف حجاوي الذي لا يحب السياحة، والكاتب أحمد أمين مع البوسفور وقصته مع تحولات تركيا في عصرهم من خلافة إلى جمهورية.

 

شارك

مقالات ذات صلة