“أوه، جيري. دعنا لا نطلب القمر، فلدينا النجوم”. هذه هي واحدة من أشهر وأبرز العبارات التي قيلت في تاريخ السينما، وقد وردت على لسان الفنانة العظيمة “بيتي ديفيس”، التي أنا شخصيًّا أعتبرها واحدة من أفضل الممثلات على الإطلاق.
لقد اشتهرت تلك العبارة أكثر من الفيلم نفسه، بسبب المعاني العميقة والدفينة التي تشير إليها، فقد أصبحت تُستخدَم كناية عن أنّ السعادة لا تأتي فقط من تمنّي الشيء الأهم، بل من الأشياء الصغيرة الأخرى المهمة التي قد لا ندرك وجودها وتأثيرها في حياتنا، وإنْ تكيّفنا معها سنكون سعداء إلى الأبد.
فيلم “Now, Voyager” أو “الآن، أرتحل” الذي أُنتِج في عام 1942 هو فيلم دراما رومانسي كلاسيكي رائع وجميل ومؤثر، للمخرج “إرفينغ رابر”، وقد تم اقتباسه من كتاب يحمل الاسم نفسه للكاتبة “أوليف هيغينز براوتي”، وهو الجزء الثالث ضمن السلسلة الروائية “عائلة فيل” التي تتألّف من 5 أجزاء، وقد قام “كاسي روبنسون” بكتابة النص السينمائي بشكل متميز.
تدور أحداث القصة حول “شارلوت فيل”، وهي امرأة في منتصف العمر، وقد عانت من انهيار عصبي بسبب والدتها المتسلطة التي تتدخل في كل شؤون حياتها، وتتحرر أخيرًا بعد علاقة حب قصيرة مع “جيري دورانس”، وهو رجل متزوج، وتقابله أثناء رحلة على متن سفينة بعد قضاء فترة علاجها في المصحّة النفسية مع الدكتور “جاكويث”، الذي تكنّ له كل الاحترام والتقدير.
تتوطّد الأحداث بشكل غير متوقع، بحبكة جميلة ومشوّقة، وبمفاجآت لا تخطر على البال، والتي تُعدّ مبتكرة بالنسبة لفيلم كلاسيكي قديم، إذ أنّ هناك عمق في القصة والشخصيات بالتوغّل في الجانب النفسي، وليس الأمر مجرد قصة حب ورومانسية مستهلكة.
لقد أبدعت “بيتي ديفيس” في أداء شخصية “شارلوت فيل”، ولقاء ذلك ترشّحت لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة، ولا أنسى “غلاديز كوبر” التي أدّت شخصية الأم السيدة “فيل” بشكل جميل، وقد ترشّحت أيضًا لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة مساعدة.
“بول هنريد” و”كلاود رينز” أيضًا أبدعا في أداء شخصيتَيْ “جيري دورانس” والدكتور “جاكويث”، ولا أنسى بقية الممثلين الذين قدّموا أداءً جميلًا، بمن فيهم الطفلة الموهبة “جانيس ويلسون” بشخصية “تينا”.
من أسرار روعة هذا الفيلم، الموسيقار الكبير “ماكس شتاينر” الذي أسَرَني بموسيقاه الرقيقة والجميلة، حيث كانت متناغمة جدًّا مع الحوارات القوية ومشاعر الشخصيات، كما استخدم في بعض المَشاهد مقتطفات من السيمفونية السادسة للموسيقار العملاق “تشايكوفسكي”، ولقاء إبداعه فاز بجائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية.
الجدير بالذكر أن “ماكس شتاينر” هو موسيقار أفلام أمريكي من أصل نمساوي، ترشح للأوسكار 24 مرة في فئات الموسيقى التصويرية، وفاز بها 3 مرات، وقد تتلمذ على يد 3 من عمالقة الموسيقى الكلاسيكية في طفولته، وهم: “ريتشارد شتراوس” و”يوهانس برامز” و”غوستاف مالر”.
هذا الفيلم هو الأكثر تحقيقًا للإيرادات في شبّاك التذاكر في أمريكا من بين أفلام “بيتي ديفيس”، التي معظهما كانت من إنتاج شركة وارنر براذرز، على الرغم من أنّ “بيتي ديفيس” رفضت في البداية المشاركة في الفيلم، ولكنّها وافقت بعد ذلك، وقد صرّح الكثيرون ممّن عملوا في الفيلم أنّها كانت منسجمة جدًّا مع المخرج “إرفينغ رابر” على غير عادتها، لأنه تعامَل معها كشريكة في عمله ولم يتسلّط عليها بالأوامر لأداء المَشاهِد بطرق معيّنة، حيث كان يستشيرها في تجربة أفكاره على شخصيتها حتى تتقمّصها بأفضل صورة، وبالفعل نجحت في ذلك. تم إصدار الفيلم قبل عدّة أعوام على أسطوانات البلوراي بجودة رائعة ومبهرة من قِبَل شركة كرايتيريون المختصة بالأفلام النخبوية.