مدونات
الكاتب: محمد الميموني
لكل قلبٍ حر ميدان يشبهه ويُناسب طاقاته، ولكل يد أبية سلاح يتناسق مع قوتها وبراعتها، فميادين الحرب لا تقتصر على السيوف وأزيز الرصاص، بل قد يكون في كلمة يُصدَح بها، أو دعاء يرفع للسماء، أو مقاطعة تفرغ جيوب الظالمين.. في هذا الخندق، كل موقف كريم هو سهم يخترق الحصون، وكل يدٍ لا تُمالِئ الباطل هي دعامة لعرش الحق. فهل يعجز القاعدون عن حمل هذا السلاح، أم يثبطون العزائم عن معركة الحق بوجه الطغيان؟ إن المقاطعة فعلُ مُقاومةٍ صامت يستطيعه كل إنسان بعيدٍ عن ساحات القتال، فيه عزة النفس وكسرٌ لحواجز التبعية لآلةِ الظلم والاستبداد، فهي ليست مجرد إجراء اقتصادي حديث، بل هي خلق قديم، ومبدأ راسخ اتخذه أحرار العالم عربا وعجما، كسبيل للتعبير عن عزة النفس ورفض الذل.
ولنا في الهندِ مثال، حيث قاد “غاندي” المقاطعة بفلسفة: “مقاومة الظلم باللاعنف”، وقد توسعت حتى امتدت بعد مقاطعة المنتجات البريطانية، إلى مقاطعة المدارس والمعاهد ودفع الضرائب، حتى نالت استقلالها عام 1947 م، ولنا في جنوب إفريقيا مثال آخر، حين كان قاد العالم مقاطعة مختلفة ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، وشملت هذه المقاطعة مختلف المجالات كالتجارة والرياضة والثقافة، مما أثر في الرأي العام العالمي حتى تم إسقاط النظام.
واليوم.. إذ طغت شهوة المادة، وتربعت الشركات الكبرى على عرش الاقتصاد، باسطة أجنحة نفوذها على الدول والمجتمعات، حتى صارت تتحكم في حاجات الناس وأفكارهم، فأصبح الشخص مُتلاعبٌ به بخيوط الفكر الرأسمالي الذي لا يقيم وزنا لكرامة الانسان، مما جعله مٌستلبَ الإرادة والتفكير، مكبلا بسلاسل المادة والتمركز حول اللذة، أسيرا لشهوة بطنه وأهوائه، فصار كيانا هشا مهزوما لا يقدِر على التخلي والامتناع، وقد يتمركز في خندق “المثبطين” يُخذل الناس عن فعل المقاطعة من حيث لا يدري، وقد قال الله فيهم: “لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة”، وقوله تعالى: “وقالوا لا تنفروا في الحر” وفي هذا وذاك إعراض منهم عن الحق، وفرارا من واجب النصرة، وبئستِ الأعذار أعذارهم، فهي واهنة كبيت العنكبوت، تفضح تقاعسهم وتكشف غفلتهم وسطحية تفكيرهم.
هل للمقاطعة وجه شرعي وأخلاقي؟ إن المقاطعة ليست فعلا اقتصاديا فقط، بل تتصل بالفطرة السليمة والشرع والأخلاق، فالشرع يؤكد على دفع الظلم وعدم معاونة الأعداء، كما قال تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان” أليست هذه الآية الكريمة مُلزٍمة لنا بإمساك أيدينا وبطوننا عن دعم العدوان؟ وقد أشار العديد من العلماء إلى هذا الموضوع، ولا يتسع المقام لبسط أقوالهم بالتفصيل مثل: “الألباني في مسألة اللحوم البلغارية التي عرضت عليه في زمانه، وعلامة المغرب الكتاني الفاسي رحمه الله الذي أسقط فريضة الحج عن المغاربة لأن وسيلة السفر الوحيدة كان هي السفن النصرانية، قائلا إنهم يأخذون أموالنا فيتقوون بها علينا…” فكيف نرضى بإدخال طعام أو شراب إلى جوفنا ونحن نعلم أنه مغموس بدماء الأبرياء؟ وكيف تسول لنا أنفسنا أن ننفق درهما نعلم أنه سيتحول إلى رصاصة تخترق أجساد إخواننا؟ ألهذا الحد لا نستطيع التغلب على شهوة البطن رغم عظم المأساة الإنسانية التي تنخر جسد الأمة؟ وللمقاطعة تأثير ملموس، إذ تؤكد التقارير أن بعض الشركات الداعمة للكيان قد تكبدت خسائر مالية ضخمة، مما دفع بعضها إلى مراجعة سياساتها، خوفا من الاستمرار في نزيف أرباحها على المدى البعيد، فبعضها أعلن بعد أيام من المقاطعة عن تضامنه مع غزة، وبعضها أعلن عن تقديم مساعدات لغزة مثل شركة STARBUCKS، وبسبب تأثير المقاطعة أيضا عمدت إسرائيل على تغيير الباركود خاصتها، ولعل آخر المستجدات هي ما أعلنته سلسلة متاجر “كارفور الأردن” عبر صفحتها الرسمية فيسبوك بإيقاف جميع فروعها في الأردن اعتبارا من 4 نونبر 2024، والكثير من الشواهد التي قد لا تظهر لمن عطل عقله عند فرضية عدم جدوى المقاطعة.
وفي الختام، إن مفهوم الجسد الواحد يقتضي منا تحويله إلى أفعال، فإن الألم كبير، ومن لم ينفعه بيان المشهد المباشر، لن ينفعه التبليغ، وإن الانسان ليشعر بتفاهة ما هو فيه عندما يشاهد المجاهدين وهم يتجادلون حول دبابة “الميركافاه” أيهم يكون له شرف اصطيادها فتكون جسره للجنة، ثم يجد نفسه يحاول إقناع شخص ما بمقاطعة مشروب ليس في حاجة إليه أصلا، وحياته لن تنتهي إذا امتنع عن شربه، فالمقاطعة عمل يضعنا في صف من ينادون بالحرية ورفض الظلم بكل وسيلة ممكنة.
إنها رسالة نوجهها للعالم، بأننا قادرون على التأثير، وأن الباطل وإن تجبر فلا يثبت أمام صمود الشعوب وإرادتهم: فقط.. ابدأ بنفسك ولا تلتفت للجماعة، فلو أن كل إنسان بدأ بنفسه لكثر سواد أهل الحق، ولكان تأثير المقاطعة أكبر، بدلا من أن نبقى قاعدين ننظر على الناس ونصدهم عن أبواب النضال والمقاومة المتاحة.