سياسة
المشهد الجيو-استراتيجي الراهن في الشرق الأوسط سيفضي قطعا لتعقيدات جديدة، تضاف ربما للتعقيدات التاريخية والديمغرافية والعسكرية التي لازمت رقعة الشطرنج والتوازنات، وتغيرت غيرَ مرة وكرّست للاستقطاب والنزاع والتفوق المنهجي واللا واعي على حد سواء في العقليات القيادية والعملياتية المتباينة بين دول المنطقة، والانحيازات العرقية والمذهبية والطائفية الساعية لتكريس القوة الكامنة بين تعداد سكانها لعقود خلت.
التعقيدات العسكرية والتحالفات الاستراتيجية
لايزال من المبكر الحديث عن تركيبة المنطقة الاستراتيجية فيما بعد، خاصة مع تصاعد المواجهات بين مكونات عربية مسلحة وإسرائيل. وإن كان الفرز واضحا بين محورين قديمين كتبْتُ عنهما آنفا، محور ما كان يسمى بالممانعة وهو التقاء في رفض الهيمنة والإمبريالية الأمريكية التاريخية دون تحالف عملي حتى الآن على مستوى تنسيقي مفهوم في اتساق أو تنسيق، تُصطف فيه الأراضي الفلسطينية المحتلة ومقاومتُه المسلحةُ والشعبية، ولبنان ”ممثلا في وكيل إيران – حزب الله“ والمكونات الموالية لإيران أيضا في العراق وسورية واليمن، تنضم إليهم عمليا الجزائر بأجندة عسكرية مغايرة تتنافس فيها بالأساس مع المغرب وعينها على ليبيا وتونس والحركات الجهادية الراديكالية في مالي وشرق أفريقيا من جهة، وبين محور التطبيع الذي تكّون عبر عقود بخدمة مصالح الولايات المتحدة في المنطقة ويضم بتفاوت زمني وعملياتي دول الخليج ومصر والأردن والمغرب والسودان من جهة أخرى. لا ننسى أن روسيا حتى اللحظة لم تعلن موقفا واضحا من الاصطفافات العسكرية الآنية في الشرق الأوسط، لربما بسبب استنزاف مواردها العسكرية في أوكرانيا، أو انتظارا لفرصة اللحظة الفارقة كما سبق وأقدمت على التدخل العسكري المباشر في سورية لتحسم الحرب لصالح النظام.
ما بعد الحرب على فلسطين
كي تستقر التوازنات الجديدة، أو تعود لمحوري الممانعة والموالاة للهيمنة الأمريكية بمعطيات مغايرة، لابد لمراكز القوى أن ترتب ثقل عملياتها بدءا من القضية الفلسطينية عسكريا بتنسيق حقيقي – وهو المستبعد لتضارب المصالح – بما يخدم مآربها وأعماقها الاستراتيجيتين بعناية، بالتوازي مع طرح ” فيالق المقاومة“ العسكرية بأذرعها في لبنان وسورية والعراق واليمن. المشهد أقرب إلى ذاك الذي سبق الحرب العالمية الأولى، أحلاف تُصطف بسرعة وبالتزامن تتفق طرديا مع تسلسلٍ تتنافر فيه الأشباهُ وتتحد الأضداد، اتساقا مع أيدلوجية واحدة وليس مصلحة واحدة والفارق كبير. يؤسس هذا النوع من التحالفات عادة لسباق تسلح قد يفضي إما لفوضى شاملة أو إلى مهادنة طويلة الأمد وإن بقيت هشة تخلق معادلة الردع العسكري بين هذه القوى على فرقتها أو بين حلفين على تضادهما. المشهد نفسه يؤسس لحرب باردة جديدة بين الغريمين الأمريكي والروسي انعكاسا على الشرق الأوسط.
سباق التسلح في الشرق الأوسط
لافت أن تحتل المملكة العربية السعودية والجزائر وتركيا والإمارات مراكز متقدمة على لوائح الدول المستوردة للسلاح في السنوات الأخيرة بعد الانتفاضات العربية. أظن أن خلق عداءات أصيلة أو مستحدثة للسعودية والإمارات مع تيار الإسلام السياسي وإيران من جهة، وللجزائر مع المغرب خصوصا مؤخرا، وتنافس بين تركيا وإيران والسعودية على منزلة القائد أو العاهل للعناصر السنية والشيعية والإسلام السياسي من جهة أخرى سبب للسعي للتسليح بهذه السرعة والتكريس الملحوظ. في تقرير شديد الإحكام صدر شهر أكتوبر الجاري لمعهد ستوكهولم العسكري وقاعدته البيانية لصادرات السلاح العالمية، ذهب الباحثون إلى أن علاقة طردية تجددت أواصرها بين صادرات السلاح وتعقد الوضع العسكري بعد الحرب على غزة، خصوصا في الأسابيع الأخيرة. بالمضاهاة بتقرير صدر عن نفس المعهد عن اتجاهات التسليح أي قبل استهداف القيادة العملياتية لحزب الله وحماس، نرى بوضوح أن الترتيب متقارب لكن صفقات التسليح تضاعفت تقريبا في نموذج واضح لسباق التسلح بين دول المنطقة لصالح الدول المصنعة للسلاح عالميا في تنافس ملحوظ على الأقل في سوق السلاح المسجلة، ناهيك عن الصفقات الخفية بين دول منطقة الشرق الأوسط.
إيران وتركيا وضبط الإيقاع
اللافت جدا الموقف الخجول لتركيا وإيران في الصراع الممتد الآن بين إسرائيل وعناصر ”الممانعة“ في المنطقة حتى مع تنفيذ عمليات نوعية للحرس الثوري الإيراني أو المؤتمرين بأمره، خاصة وأن تركيا عسكريا تصنف الثانية من حيث قوة الردع في حلف شمال الأطلسي ناتو في الشرق الأوسط دونا عن باقي الحلفاء، الذي وفقا للبند الخامس للدفاع المشترك من اتفاقية تأسيس الحلف، يفرض على دول التحالف التدخل إذا ما تعرضت إحدى دول ناتو لخطر يهدد مصالحه العسكرية. تركيا تدرك جيدا أن بيضة القبان في هذه المعادلة هي المصالح الأمريكية، خاصة مع التهاء الدول الأوروبية في حرب أوكرانيا، وتقلص الصادرات الروسية لأوروبا في سوق الطاقة والمنتجات النفطية.
لافت أيضا أن المستفيد الوحيد من الوضع الراهن في سوق السلاح سواء بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أو للتصعيد الحاد في الشرق الأوسط عسكريا هو الولايات المتحدة، سواء كقوة مهيمنة تستميت فصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله والحرس الثوري وإن كان على استحياء لمناددته، أو كمُصدّرٍ للسلاح إلى جانب فرنسا وألمانيا وروسيا، واشتداد سباق التسلح حتى بين حلفاء الولايات المتحدة فيما بينهم غي تنافس لم يعد خفيا في السعودية والإمارات مقارنة بإسرائيل، إحدى كبريات الدول من المتلقين للمعونات العسكرية الأمريكية والمستوردين للأسلحة الفائقة، بدرجة تحتفظ لإسرائيل علانية بالتسليح الأكثر تقدما والانفراد بأدوات التحكم عن بُعد لبعض أهم المقاتلات الأمريكية أو راجمات الصواريخ أو أنظمة الدفاع الجوي، بينما تحاول السعودية والإمارات اللحاق بمنافع التطبيع سرا وعلانية من إتمام صفقات التسليح الفائق بشكل مطرد وعلى مدد من المصدر الأهم – الولايات المتحدة – دون إحراز الندية المرجوة مع إسرائيل أو حتى مع تركيا.
بقي أن نقول إن الدول العربية تتفوق حتى على الدول الأوروبية في معدلات استيراد الأسلحة في عامي ٢٠٢٤ النصف الأول أو ٢٠٢٣ النصف الأخير، مقارنة حتى بالدول الأوروبية، وأن معدل الربح الأمريكي تضاعف بنحو ١٧٪ من بيع الأسلحة اللازمة لحرب شاملة، وهو أمر تتفاداه دول المنطقة بشراء أسلحة تفوق احتياجاتها وأحيانا تفوق قدرتها الشرائية مثل مصر على سبيل المثال، لمجرد البقاء في معادلة الردع دون خوض الحرب الشاملة فعلا إذا لم يُضطروا.
التسلح للردع
ملاحظة أخرى تتعلق برصد صادرات في ٢٠٢٣-٢٠٢٤، حتى الساعة تراجعت الصادرات بين الدول المنخرطة بالفعل في حرب أوكرانيا، سواء بالتسليح أو المجابهة أو العقوبات الاقتصادية على روسيا، باستثناء الولايات المتحدة، مقارنة بدول تخشى التورط في حروب في الشرق الأوسط بينما لم تدخلها بعد، وهو ما يؤكد أن سباق التسلح المحموم غايته في الوسيلة – أي بالتسابق في الاستيراد لتحقيق تكافؤ في التسليح بين الدول التي تخشى الحرب. تبقى السعودية وقطر إقليميا ومعهم الهند دوليا في المراكز الثلاث الأولى لاستيراد الأسلحة بين عامي ٢٠١٩-٢٠٢٤. بينما تراجعت الصادرات الروسية بمعدل 53٪ مقارنة بما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا – وذلك يعني عمليا أن أي خطوة روسية كانت محتملة للتدخل في حسم سباق التسلح والردع في الشرق الأوسط سيتأخر أو ستنعدم في حال استمر الوضع على ما هو عليه في أوكرانيا تزامنا مع الحرب العربية بين المكونات السالف ذكرها في المنطقة في مواجهة إسرائيل. لا نغفل أن إيران وإسرائيل على الأرجح تمتلكان ترسانة تسليحية نووية سواء في صورة يورانيوم عالي التخصيب في مفاعلات خفية أو غير معلنة أو بمنشآت نووية فعلا، ما يعزز فرص سعي دول أخرى بالمنطقة إما بتطوير التكنولوجيا لامتلاك روادع نووية أو حتى بمجرد التلويح بها لضبط اتزانها على ميزان الردع القادم.