أدب
كثيرا ما وصف غيلان (ذو الرُّمة) النعام في شعره، لا سيما في بائيته الشهيرة:
ما بال عينك منها الماء ينسكبُ
يشبه غيلان ناقته في بائيته، تارة بالحمار، وتارة يشبهها بالثور، وفي مرة عندما انتهى من تشبيه ناقته بالثور، قرر أن يشبهها بالظليم، الذي هو ذكر النعام، فيقول غيلان:
أذاك أم خاضِبٌ بالسِّيِّ مرتَعُه – أبو ثلاثين أمسى فهو منقلِبُ
يقول أذاك الثور الذي شبهت به ناقتي يشبهها حقا، أم إن الذي يشبهها هو خاضب بالسي، والخاضب هو الظليم، فالخاضب من النعام هو الذي احمرت ساقاه وأطراف ريشه، فيسمى خاضبا.
غيلان في هذا البيت شبه ناقته بظليم خاضب، أي محمر الساقين وأطراف الريش، يرعى بالسِّي أي بأرض مستوية. هذا الظليم أبو ثلاثين أي أبو ثلاثين فرخا، “أمسى وهو منقلب”، أي انقلب راجعا إلى فراخه في المساء.
ثم يقول غيلان بعد هذا البيت:
شَختُ الجُزَارة مثلُ البيتِ سائرُه – من المُسوح خِدَبٌّ شوقبٌ خَشِبُ
هذا الظليم شخْتُ الجُزَارَة، أي دقيق القوائم والرأس، فقوائم الدابة ورأسها تسمى الجزارة، وذلك لأنها أُجْرَة الجَزّار في العادة.
فهذا الظليم الذي يصفه غيلان هو شخت الجزارة أي دقيق القوائم والرأس، “مثلُ البيت سائره من المسوح”، شبه سائر جسمه ببيت الشَّعَر الذي هو الخيمة، وعرفنا أنه شبهه ببيت الشعر لأنه قال “من المسوح” فالمسوح جمع مِسْح وهو الكِساء من الشَّعَر. ثم قال “خِدَبٌّ” أي ضخم، “شوقَب” أي طويل، “خشِبُ” أي غليظ جافٍ.
ثم قال:
كأن رجليْهِ مِسْماكان من عُشَرٍ – صَقبان لم يتَـقَشَّر عنهما النَّجبُ
شبه رجلي الظليم بالمسماكين وهما عودان يسمك بهما البيت، “من عُشَرٍ” وهو نوع من الشجر، “صقبان” أي طويلان، “لم يتقشر عنهما النجَبُ”: النجب هو قشر الشجر (لحاء الشجر)، قال إن هذين العودين ما زال عليهما القِشر وذلك أشبه بلون رجلي النعامة. ثم قال:
ألهاه آءٌ وتنوم وعُقبتُه – من لائح المرو والمرعى له عُقَبٌ
هذا الظليم ألهاه عن فراخه الآء والتنوم وكلاهما نبت، “وعقبته من لائح المرو”: لائح المرو هو ما ظهر من الحجارة البيض، تقول النعامة تَعقُبُ، ما معنى ذلك؟ أي إنها ترعى الآء والتنوم، ثم بعد ذلك تأكل الحجارة، فنقول إن تلك الحجارة هي عُقبة النعامة، ونقول إن تلك النعامة تعْقُب. فذو الرمة هنا قال لك إن هذا الظليم ألهاه عن فراخه رعي الآء والتنوم وأكلُ الحجارة.
ثم يشرع غيلان في تشبيه هذا الظليم تشبيهات عديدة، إلى أن يقول بعد كل ذلك:
حتى إذا الهَيْقُ أمسى شامَ أفرُخَه – وهن لا مؤيسٌ نأيا ولا كثَبُ
الهيق هو الظليم، هذا الظليم حين أمسى شام أفرخه أي نظر ناحية فراخه، وهن لا مؤيس نأيا ولا كثب، يقول موضع فراخه ليس بالبعيد من الظليم حتى ييأس من طلبها، وليس بالقريب أيضا فهو بيْنَ بيْنَ.
ثم يقول واصفا عَدْوَ هذا الظليم مسرعا إلى فراخه:
يرقَدُّ في ظل عَرّاص ويطردُه – حفيفُ نافِجة عثنونها حَصِبُ
يرقد أي يعدو، في ظل عراص أي في ظل غيم كثير البرق، ويطرده حفيف نافِجة، أي يطرده صوت ريح شديدة، عثنونها حصب، أي أوائل هذه الريح فيها حصباءْ وتراب. ثم يقول:
تبري له صَعْلَة خرجاء خاضعَة – فالخَرْقُ دون بناتِ البيضِ مُنتَهَبُ
هذا الظليم تعترض طريقه نعامة وهي أم الفراخ، والظليم والنعامة يضرب بهما المثل في الحمق، لأنهما يظلان لاهيين عن فراخهما فإذا تذكراها في المساء رجعا يعدوان مسرعين، تارة يتذكر الظليم الفراخ قبل أن تتذكرها النعامة فيفر راجعا، فإذا رأته النعامة يعدو تذكرت الفراخ فاعترضت طريقه لتعدو معه كما ذكر لك ذو الرمة هنا، وتارة يحدث العكس، فتتذكر النعامة البيض قبل الظليم فتعدو مسرعة فإذا رآها الظليم تعدو، تذكر الفراخ والبيض فاعترض طريقها ليعدو معها، وقد وصف هذه الحالة ثعلبة ابن صعير حين قال:
يـبـري لرائحة يساقطُ ريشَها – مـرُّ النجاءِ سِقاطَ ليف الآبر
ففي بيت ثعلبة، هذا الظليم هو الذي يعترض طريق النعامة لأنها تذكرت البيض قبله، أما في بيت غيلان هنا، النعامة هي التي تعترض طريق الظليم لأنه تذكر الفراخ قبلها. ثم وصف غيلان هذه النعامة قائلا: صعلة أي صغيرة الرأس دقيقة العنق، خرجاء أي فيها سواد وبياض، خاضعة أي مطمئنة جسمها قريب من الأرض، “فالخرق دون بنات البيض منتهب”، أي إن هذا الظليم والنعامة يخترقان الأرض وينهبانها نهبا بعدوهما السريع نحو بنات البيض، وبنات البيض هي الفراخ.
ثم يقول ذو الرمة بيته الشهير:
كأنها دلو بئر جد ماتحها – حتى إذا ما رآها خانها الكَرَبُ
يقول كأن هذه النعامة في سرعتها دلو سقطت في بئر، هذه الدلو كان يجذبها الماتح، والماتح هو الذي يستقي من أعلى البئر، هذا الرجل حين جذب الدلو من أسفل البئر واقتربت الدلو من أعلى البئر حتى صار الماتح يراها، انقطع الحبل فسقطت الدلو، فهذا معنى “خانها الكربُ”، والكرب هو عقدة طرف الحبل في الدلو، الدلو تكون لها خشبتان كالصليب فيعقد فيهما الحبل، وعقدة الحبل تلك تسمى الكرَب، فتلك العقدة هي التي فُك منها الحبل فسقطت الدلو، فسرعة سقوط هذه الدلو هي التي شبه بها غيلان سرعة هذه النعامة. وسمى انفكاك عقدة الحبل خيانة، لأن الدلو معتمدة في صعودها على الحبل فكأن الحبل في انفكاكه قد خان الدلو.
ثم يقول:
لا يَذْخران من الإيغال باقيةً – حتى تكادَ تفرَّى عنهما الأُهُبُ
الإيغال هو المضي من أوغل في الأرض إذا مضى فيها، يقول لا يدعان من التوغل في الأرض شيئا حتى لقد أو شكا أن تتفرى عنهما الأهب أي أوشكا أن تنقدّ عنهما جلودهما، ثم يقول:
فكلُّ ما هبطا في شأو شوطهما – من الأماكن مفعول به عجب
يقول كل مكان مرا عليه في طريقهما إلى الفراخ، فَعلا به العجب من شدة العدو وسرعته. ثم يقول:
لا يأمنان سباع الأرض أو بَرَداً – إن أظلما دون أطفال لها لجَبُ
يقول إن الظليم والنعامة لا يأمنان على أطفالهما (فراخهما) سباع الأرض أو البرد، لأن كل ذلك يؤذي الفراخ والبيض، واللجبُ هو صوت الفراخ فهذه الفراخ لها لجب لها صوت تستغيث به وتشكو جوعها.
ثم قال واصفا هذه الفراخ:
جاءت من البيض زعرا لا لباس لها – إلا الدَّهاسُ وأم برة وأبُ
يقول إن هذه الفراخ خرجت من البيض زُعْرًا أي لا ريش عليها، فليس لها من لباس سوى الدهاسِ الذي هو الرَّمْل اللين، ليس لها من ثوب سوى الرمل أو أم برة وأب، وهما النعامة والظليم اللذان يعطفان على تلك الفراخ.
تضمنت بائية غيلان معانيَ أخرى جميلة ولغة غنية تستحق أكثر من مقال.
عشتم طويلا