أدب
كان غيلان ذو الرمة (تـ 117 هــ) وصّافا، وكان يقول: إذا قلت “كأن” ثم لم أجد بعدها مخرجا فقطع الله لساني.
وقد عرض ذو الرمة بالوصف للحيوانات التي كان يصادفها بمرابع أهله في الدهناء، ومن تلك المخلوقات: الحرباء.
الحرباء الدويبة المعروفة هو مذكر خلافا لما هو شائع اليوم، فالصواب أن نقول هذا حرباء لا أن نقول هذه حرباء، والجمع حَرابيُّ، وإذا أردت المؤنث قلتَ حرباءة، والحرباءة تُسمى أيضا أمَّ حُبَـيْن.
يقول الراجز:
أم حبين انشري برديك – إن الأمير ناظر إليك
وكما أن العرب أضافت الذئب للغضى فتقول ذئب غَضَى، فقد أضافت الحرباء للتنضبة فتقول حرباء تَنْضُب، والتنضب هو الشجر المعروف الذي تُصنع منه العِصيُّ ويألفه الحرباء.
الحرباء يَسْتَقْبِلُ الشمسَ برَأْسه ويدور معها كيف دارت، فيتلون ألوانا بحر الشمس. ويضرب بالحرباء المثل، فيقال أحزم من حرباء، وذلك أنه في تنقله من غصن إلى غصن لا يفارِق الغُصن الذي هو عليه، حتى يثْبُت على الغُصْن الآخر فهو شديد التريث، وفي ذلك يقول الأول:
أنّى أتيح لها حرباء تنضبةٍ – لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا
ذو الرمة الشاعر، وصف الحرباء مرات عديدةً كعادته في وصف مشاهداته في بوادي الدهناء التي هي منطقة قبيلته تميم. وقد ذكر ذو الرمة الحرباء في إحدى عشرة قصيدةً على الأقل من شعره، وقال الدكتور محمد برونة الجزائري في أطروحته عنه إنه ذكر الحرباء في تسعِ قصائد فقط، فأغفل محمد برونة قصيدتين سأذكرهما مع القصائد التسع التي أتى بها برونة.
ذكر ذو الرمة الحرباء في قصيدته:
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما – على دار مي من صدور الركائب
حيث يقول في استمتاع الحرباء بالشمس في هذه القصيدة:
كأن يدي حربائها متشمسا – يدا مجرمٍ يستغفر الله تائبِ
فهو شبه وضعية يدي الحرباء بوضعية رجل يتلهف بالدعاء لله كي يغفر له.
ذكر أيضا غيلان الحرباء في أرجوزته:
ذكرتَ فاهتاج السَّقام المضمرُ – وقد يهيجُ الحاجةَ التذكرُ
حيث يقول:
وآض حرباءُ الفلاةِ الأصحر – كأنه ذو صيَدٍ أو أعوَرُ
أي تحول لون الحرباء، والأصحر هو الذي بين البياض والحمرة، والصَّيَد هو داء يصيب الإبل فترفعُ رؤوسها منه، فهو شبه رفع الحرباء في الشمس رأسه برفع الناقة رأسها إذا أصيبت بالصيَدِ.
ذكر أيضا غيلان الحرباء في قصيدته التي أولها:
خليلي لا رسم بوهبينَ مخبر – ولا ذو حجا يستنطق الدار يُعذرُ
حيث يقول في الحرباء من هذه القصيدة:
يظلُّ بها الحرباء للشمس ماثلا – على الجِذل إلا أنه لا يكبر
إذا حولَ الظلَّ العشيُّ رأيته – حنيفا وفي قرنِ الضحى يتنصر
الحرباء كما ذكرت لك سابقا، يستقبل الشمس برأسه ويدور معها حيث دارت. ففي أول اليوم يكون نصرانيا، لأن قبلة النصارى شروق الشمس والحرباء يوجه رأسه للشمس في شروقها، وإذا حول الظلَّ العشي أي إذا كان المساء حول الحرباء رأسه إلى الغرب وبذلك يكون قد توجه لقبلة المسلمين. فبلاد تميم قبلتها إلى الغرب لأنها تقع إلى الشرق من مكة فمن أراد أن يصلي منهم اتجه غربا.
وقد قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء إن غيلان أخذ هذا الوصف من ظالم بن البراء حيث يقول ظالم:
ويومٍ من الجوزاء أما سكونه – فضِحٌّ وأما ريحُه فسمومُ
إذا جعل الحرباء والشمس تلتلظي – على الجِذل من حر النهار يقوم
يكون حنيفا بالعشي وبالضحى – يصلي لنصرانية ويصومُ
وصف أيضا ذو الرمة الحرباء في قصيدته التي أولها:
وقفت على ربع لمية ناقتي – فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
حيث يقول في وصف الحرباء من هذه القصيدة:
إذا جعل الحرباء يبيض لونه – وتخضر من لفح الهجير غباغبُه
ويشبَح بالكفين شبحا كأنه – أخو فَجْرة عالى به الجِذع صالبُه
يقول إن الحرباء إذا اشتد لهيب الشمس اخضرت غباغبه والغباغب واحدة الغبغب الذي هو الجلدة التي تحت الحلق، تكون متغضنة لينة كأن بها انتفاخا. وتكون في بعض الحيوانات كالديكة وغيرها. هو يقول إن غبغب الحرباء اخضر من شدة لهيب الشمس، ثم شبه يدي الحرباء على جذع الشجرة بذراعي رجل مصلوب فهما مشبوحتان والشبح هو مدك الشيء بين الشيئين، فيقول غيلان كأن هذا الحرباء أخو فجرة أي رجل اقترف جرما فصلب على جذع شجرة، وهو تشبيه بليغ.
ذكر أيضا غيلان الحرباء في قصيدته التي أولها:
أمن دمنة جرت بها ذيلَها الصَّبا – لصيداء –مهلا- ماء عينيك سافِحُ
حيث يقول من هذه القصيدة واصفا شدة الحر:
لظى تلفح الحِرباءَ حتى كأنه – أخو جَرَمات بز ثوبيه شابحُ
شبه الحرباء في شدة الحر برجل ارتكب جرما فشبحت يداه ومزقت ثيابه ليجلد عقابا له على جرمه الذي ارتكب.
ذكر أيضا غيلان الحرباء في قصيدته التي أولها:
ألم تُسأل اليوم الرسومُ الدوارسُ – بحُزوى وهل تَدرِي القِفار البسابسُ
حيث يقول من هذه القصيدة:
فلما لحقنا بالحدوج وقد علتْ – حَماطاً وحرباء الضحى متشاوسُ
تشاوس الحرباء هو أن ينظر بمؤخَر عينه وهو من الشوَس الذي هو النظر بمؤخَّر العين تكبرا أو تغيُّظا، وهذا مشاهد، فالحرباء عندما تكون خلفه تتحير هل ينظر إليك أم ينظر أمامه وذلك أن عينه مصممةٌ بحيث ينظر بها في كل اتجاه وهو لم يحرك رأسه أو يلتفت وهو أمر مشاهد في بنات جنسه كالضب والوَرَل وغيرهما.
ذكر أيضا غيلان الحرباء في قصيدته التي أولها:
أمنزلتي مي سلام عليكما – على النأي والنائي يود وينصحُ
حيث يقول من هذه القصيدة:
إذا جعل الحرباء مما أصابه – من الحرِّ يلوي رأسه ويُرَنِّحُ
الحرباء قليل الحركة بطيئها، فإذا لوى رأسه وترنح لم يكن ترنحه عبثا بل هو هنا لشدة الحر.
ذكر أيضا غيلان الحرباء في أبياته التي أولها:
أمنكر أنت ربع الدار عن عُفُر – لا بل عرفت فماء العين مسكوب
وذلك في قوله:
كأن حرباءها في كل هاجرة – ذو شيبة من رجال الهند مصلوبُ
ذكر أيضا غيلان الحرباء في قصيدته التي أولها:
أأن ترسمت من خرقاء منزلةً – كالوحي في مصحف قد مَحَّ منشورِ
حيث يقول من هذه القصيدة:
ونصَّ حرباؤها فيها ذوائبه – في صامح من لُعاب الشمس مسجورِ
من شدة الحر نص الحرباء ذوائبه، فبعض الحرابي يكون على ظهره خط طويل كقمة الجمل وهو خط محدد، وفيه نتوءات كأنه يقسم الحرباء نصفين متناظرين، هذا الخط هو الذي عبر عنه ذو الرمة هنا بالذوائب. فقد أخرج هذا الحرباء ذوائبه بسبب شدة الحر، “في صامح من لعاب الشمس”، مِن: صمحتِ الشمس إذا أصابت بشدة حرها، مسجورِ أي مملوء، يقول شعاع الشمس هذا مملوء من الحر والطاقة.
هذه المواضع التسعة التي ذكر فيها ذور الرمة الحرباء أتى بها محمد برونة في أطروحته، لكن بقي موضعان آخران لم يذكرهما، أحدهما في قصيدة غيلان التي أولها:
عفا الزُّرق من أطلال ميةَ فالدَّحلُ – فأجماد حوضى حيث زاحمها الحبلُ
حيث ذكر الحرباء في قوله:
فلما تقضت حاجةٌ من تحمل – وأظهرن واقلولى على عُوده الجَحْل
أي لما كانت الظهيرة وارتفع الجحل على العود أي ارتفع الحرباء على العود. فالجحل هو نوع من الحرابي كبير.
أما الموضع الثاني الذي ذكر فيه غيلان الحرباء وأغفله محمد برونة في أطروحته، هو في قصيدة غيلان التي أولها:
تصابيتُ في أطلال مية بعدما – نبا نبوة بالعين عنها دُثورها
حيث يقول من هذه القصيدة:
تجاوزْتُ والعصفور في الجحر لاجئ – مع الضب، والشِّقذانُ تسمو صدورها
والشِّقذان جمع شَقْذٍ وهو الحرباء، وتسمو صدورها أي ترتفع صدور الحرابي في الشجر. يقول تجاوزتُ هذه الأرض التي بلغت من شدة الحر أن لجأ العصفور فيها لجحر الضب مكرها، وهربت الحرابي إلى عمق الشجر فَرارا من الحر، فذلك معنى قوله والشقذان تسمو صدورها.
عشتم طويلا.