رأى التحرير
لم يبق إلا أيام معدودة ويكتمل مرور العام على لحظة اندلاع طوفان الأقصى، صباح السبت 7 أكتوبر 2023. وكما صار واضحا فإن لحظة طوفان الأقصى لم تكن لحظة اعتيادية، ولا خطوة علي نفس نهج الصراع المستمر بين المقاومة الفلسطينية وغزة منذ 2005، وإنما مثلت انهيارا كاملا لكافة قواعد الاشتباك السابقة، وتغييرا حادا في استراتيجية المواجهة لدى جميع الأطراف، وانقلابا دراماتيكيا في منطقة الشرق الأوسط لم يزل يتصاعد ولم تزل آثاره تتشكل إلى اليوم.
في مساء الجمعة 6 أكتوبر كان حديث كافة المراقبين للشرق الأوسط يدور حول توقع سنوات من التهدئة، وتجاوز عشرية الربيع العربي، ونضوج مسار “التطبيع الإبراهيمي” الذي يهدف لدمج دولة الاحتلال في المنظومة الإقليمية أمنيا واقتصاديا، وقد كان في انتظار ثمرته الأهم بالتطبيع مع المملكة العربية السعودية. الآن، بعد تغير كافة هذه المعادلات، وبعد مرور عام كامل، كيف يمكن قراءة الوضعية الاستراتيجية لأطراف الحرب؟ وكيف يمكن توقع مسار الطوفان في عامه الجديد؟!
قبل تقييم السيناريوهات المحتملة لمسار الطوفان، ينبغي فهم التحولات التي جرت علي استراتيجية الأطراف الفاعلة في المسرح العملياتي والسياسي للحرب: المقاومة الفلسطينية، دولة الاحتلال، إيران وقوى المحور، والولايات المتحدة الأمريكية.
أولا: المقاومة الفلسطينية
شهدت الشهور الأخيرة بشكل تدريجي انتقال مركز ثقل الحرب خارج غزة، وأصبحت الجبهة الأكثر سخونة وفاعلية هي جبهة الشمال مع المقاومة اللبنانية. وتتعرض المقاومة الفلسطينية، للمرة الأولى، لاختبار وجودي للحفاظ على تماسكها وقدرتها على الاستمرار في استنزاف قوات الاحتلال في غزة. الأمر الذي تنجح فيه بشكل محدود، لكنه مؤثر نوعا ما.
ومع تعقيد مسار المفاوضات لوقف إطلاق النار داخل القطاع الممتد منذ الشهور الأولى للحرب؛ أصبح مركز ثقل المفاوضات أيضا خارج مقاومة غزة. ورغم الوضع المدني المذري الذي أصبح ضاغطا على قوى المقاومة نفسها وليس على السكان المدنيين فقط، إلا أنه من المرجح أن لا يصل وقف إطلاق النار بين غزة ودولة الاحتلال إلى نتيجة عملية في وقت قريب.
ثانيا: دولة الاحتلال
يبدو أن ثمة قرارا داخل المؤسسات الأمنية والسياسية في إسرائيل قد اتُخذ بتصفية كافة التهديدات التي تشكلها قوى محور المقاومة، حتى لو وصلت الحرب إلى داخل طهران نفسها. فقد أشعرت ضربة السابع من أكتوبر إسرائيل أن تقديرها لخطورة المقاومة في غزة وقوى المحور كان أقل مما ينبغي، وأن شعورها بالتفوق الاستخباري والأمني والتقني لا ينبغي الارتكان له، فممن الممكن أن تخترقه قوى المقاومة وبشكل أكبر مما حدث في أكتوبر.
نتيجة لذلك؛ تخلت دولة الاحتلال عن استراتيجية “المعركة بين الحروب” التي اتبعتها مع المقاومة لعقدين علي الأقل، والتي تعني استنزاف المقاومة بالدخول معها في حروب سريعة وخاطفة على فترات زمنية متباعدة، وأصبحت إسرائيل الآن أكثر استعدادا لخوض حرب طويلة المدى بل ومتعددة الجبهات، وأصحت حساسيتها للخسائر البشرية أقل بكثير مما مضى.
ثالثا: إيران
هذه التطورات وضعت إيران أمام استحقاقات لم تكن مستعدة لها، فقد انتهجت إيران منذ عقود سياسة في مواجهة إسرائيل تعتمد على “الصبر الاستراتيجي”. والذي يعني مراكمة القوة بشكل متدرج وبطئ في إطار دفاعي، دون الانجرار إلى حروب مفتوحة ومعارك شاملة. أمام تغير النهج الإسرائيلي لم يعد أمام إيران فرصة للاحتفاظ بنفس نهجها السابق. على الرغم من أنها حاولت بالفعل طوال العام الماضي تهدئة مسار التصعيد أكثر من مرة وأظهرت للعالم كله أنها -فعلا – لا تريد الدخول في الحرب، لكن ما يبدو أن إسرائيل قد قرأت هذه الرسائل على نحو آخر لم ترده إيران، فاعتبرتها إسرائيل رسائل ضعف زادت من حماستها لتوسيع الحرب بدلا من تهدئتها. وبعد اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر في السابع والعشرين من سبتمبر، وجدت إيران نفسها مضطرة للرد على تجاوزات الاحتلال وإنقاذ صورتها أمام حلفائها وأعدائها، لكن مع ذلك لا يعني أنها بالفعل مستعدة للمضي في التصعيد حتى لو وصل الحرب، ولذا فقد ألقت الكرة مرة أخرى في ملعب إسرائيل وأعطتها الفرصة لاستيعاب الضربة وعدم الرد عليها.
رابعا: الولايات المتحدة
تمر الولايات المتحدة بما يسمى، شهور البطة العرجاء، وهى الشهور التي تسبق الانتخابات الرئاسية والتي لا يكون واضحا فيها مستقبل ساكن البيت الأبيض مما يضعه في حالة ضعف وعدم مقدرة لإنفاذ إرادته بشكل كامل. يستفيد نتنياهو بشدة من هذه الفرصة لتمرير أجندته وخاصة في ظل رهانه علي احتمالية عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض. كما أن الإدارة الديمقراطية الحالية، تستجيب لابتزازات اللوبي الصهيوني كذلك بسبب استحقاقات الانتخابات المقبلة. مما يضع إسرائيل إجمالا في موقف جيد للغاية في مقابل الولايات المتحدة، التي تعلن باستمرار التزامها بدعم إسرائيل سياسيا وعسكريا.
ماذا بعد؟
أصحب المنطقة، نتيجة للتغيرات السابق ذكرها أمام سيناريوهات أضعفها وأقلها احتمالا هو التهدئة. لكن فرص هذا السيناريو قد تزيد في حال صعود كاميلا هاريس لحكم الولايات المتحدة خاصة لو ترافق مع فشل ميداني حاد لجيش الاحتلال في الجبهة الشمالية.
بينما يظل احتمال التصعيد مع التوجه لحرب مفتوحة بين إيران وإسرائيل قائما ومحتملا، وسيتوقف بدرجة أساسية على خيارات نتنياهو نفسه، فإيران لن تتجه لهذا السيناريو مالم تتجه له إسرائيل أولا ويصبح مفروضا عليها. والسيناريو الثالث، هو الاستمرار في التصعيد المنضبط بما لا يؤدي للحرب المفتوحة، وبالتالي تأخذ الحرب شكل معركة استنزاف طويلة الأمد قد تمتد لسنوات. وفي كل الأحوال؛ فإن منطقتنا العربية، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، متجهة إلى سنوات لن يكون الهدوء والاستقرار أحد سماتها على الإطلاق.