آراء

 كيف قاوم الأزهر الاستعمار الفرنسي؟

أكتوبر 3, 2024

 كيف قاوم الأزهر الاستعمار الفرنسي؟



زار الرحالة التركي (أوليا شلبي) مصر سنة ١٧٨٠م، فانبهر بالجامع الأزهر، وكتب في مذكراته: “ليس في مصر جامع له ما للأزهر من جماعة، فهو مزدحم بالناس ليلاً ونهاراً، ولا تجد فيه موضعاً للسجدة، يجتمع فيه اثنا عشر ألف طالب ليل نهار، وتطن أصواتهم كأصوات النحل مما يدهش الإنسان، وقد انهمكوا في المباحثات العلمية”. فما قصة تأسيس هذا الجامع؟ وكيف تغيرت أحواله مع تغير الزمان؟ وما دوره التاريخي بمقاومة الاستعمار؟

افتتاح الأزهر

فتح الجامع الأزهر أبوابه للصلاة في يوم الجمعة من شهر رمضان عام ٩٧٢م، ومقره مدينة القاهرة في مصر. كان ذلك في عهد الفاطميين، وكان يُعرف باسم (جامع القاهرة). واكتسب اسم (الأزهر) بعد فترة لاحقة، والأزهر معناه المشرق، وهو صيغة المذكر لكلمة الزهراء.

بعد ٣ سنوات بدأ التدريس فيه، بعدما وصل الإمام (المعز لدين الله) إلى مصر، وبنفس العام كان القاضي (علي بن النعمان) في الجامع يدرّس الفقه، فكان هذا هو الدرس الأول في الجامع الأزهر.

المجالس النسائية

وفي الجامع عدة مجالس كما وثّق لها المسبحي رحمه الله: “وكان الداعي يواصل الجلوس بالقصر لقراءة ما يُقرأ على الأولياء، فكان يفرد للأولياء مجلسا. وللخاصة وشيوخ الدولة ومن يختص بالقصور كالخدم وغيرهم مجلسا، ولعوام الناس و الطارئين على البلد مجلسا، وللنساء في جامع القاهرة -المعروف بجامع الأزهر- مجلسا، وللحُرم وخواص نساء القصور مجلسا.” وكانت تسمى مجالس الدعوة باسم (مجالس الحكمة).

تعطيل خطبة الجمعة

 ولأن القاضي في ذلك الوقت شافعي المذهب، وهو عبدالملك بن درباس، فقد عمل بمقتضى مذهبه ومنع إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد -كما هو المذهب الشافعي- فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر باعتباره رمزا للدعوة الإسماعيلية وأقرها بالجامع الأنور (الحاكمي) لسكان القاهرة، وبجامع عمرو لسكان الفسطاط. هذا ما عطّل خطبة الجمعة من الجامع الأزهر قرابة ال١٠٠ عام، منذ ١١٧١ إلى ١٢٦٢م،  مما أدى إلى قلة الإقبال عليه. 

عودة الأزهر

وقد أعاد الخطبة في الأزهر السلطان الظاهر بيبرس، وهو المؤسس الحقيقي لدولة المماليك، وهو محيي الخلافة العباسية بالقاهرة بعد أن أسقطها المغول. وعندما عادت الخطبة للأزهر، أقبل الناس عليه بقوة، وتبرع له الأمير عز الدين أيدمر الحلي بالمال فعمّر أركانه وأيقظ جدرانه وبيّضه وبلّطه وأصلح سقفه وفرشه وكساه. هكذا عاد الأزهر كحرم في وسط المدينة يقبل عليه الناس. ومن اللفتات الجميلة أن الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار عمل مقصورة كبيرة لدروس الفقه الشافعي رغم أنه حنفي المذهب. كان لهذه المقصورة أثراً كبيراً وإسهاما واضحا في مسائل السيرة النبوية ورقائق القرآن. كانت العناية واضحة بالجامع الأزهر طوال العصر المملوكي بعد الإهمال الذي عانى منه في العصر الأيوبي، فكانت عملية تجديد الجامع وعمارته مستمرة في كل حين.

 زيارة ابن خلدون

 وقد احتضن الجامع ندوات عديدة لكبار العلماء، مثل عالم الاجتماع والفقيه المالكي عبدالرحمن ابن خلدون. أشار ابن خلدون في المقدمة وكتب ملاحظاته حول تراجع دور مراكز العلم القديمة في بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، فقد تمركزت في مصر الآن. يقول في المقدمة: “ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر، لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلافٍ من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليم العلم.”

وقد تولى ابن خلدون التدريس لفترة في مصر، فقد ولّاه السلطان تدريس المدرسة القمحية بفسطاط مصر سنة ١٣٨٤م، ثم في المدرسة الظاهرية سنة ١٣٨٦م. ودرّس الحديث كذلك في سنة ١٣٨٩م في مدرسة صرغتمش.

الفقراء

لم يكن الجامع الأزهر وجهة للتعبد أو العلم الشرعي فقط، بل أقام فيه عدد من الفقراء فكان مسكنهم ومأواهم. بلغ عددهم أكثر من ٧٥٠ رجلا، ما بين عجم وزيالعة ومغاربة وأهل ريف مصر، ولكل طائفة رواق يعرف بهم. لكن الأمير سودون القاضي حاجب الحجّاب قام بإخراجهم من الجامع، ومنعهم من الإقامة. وقد تشتت الفقراء وساروا إلى القرى. كانوا يحتمون بالجامع ويعدونه مقرا للإيواء والسكن.

مكتبة الجامع الأزهر

قام الشيخ محمد عبده بدعوة الخديو عباس حلمي الثاني عام ١٨٩٦م لإنشاء مكتبة للأزهر تجمع بها الكتب الخطية المتناثرة في أروقة الجامع والتي أغلبها من العصر العثماني، فأصبح للأزهر مكتبة. وقد أهدى الكثير من العلماء مكتباتهم للجامع الأزهر مما أثرى المكتبة.

السلطان سليمان القانوني

مع مد الدولة العثمانية تنامى دور الجامع الأزهر، وترسخت مكانته كمؤسسة علمية. خصوصا أن العثمانيون تبنوا نظام الأوقاف ابتداء من عهد السلطان سليمان القانوني، والذي وقف العديد من العقارات على الجامع الأزهر، مما عزز من مكانة الأزهر وساعد على إبراز مكانته العلمية. وقد لاقى الجامع عناية فائقة من الولاة العثمانيين.

دور الجامع الأزهر ضد الحملة الفرنسية على مصر

جاء التحول الكبير في دور الجامع الأزهر مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة ١٧٩٨م، فقد حاول قائد الحملة الفرنسية نابليون بونابرت استعمار مصر، وسعى إلى جذب تعاطف المصريين من خلال كلمته الشهيرة: “سوف يقال لشعب مصر إنني جئت لتدمير دينكم: لا أعتقد ذلك! و إجابتي على هذا لقد جئت لاستعادة حقوقكم ومعاقبة المغتصبين، والمماليك، أنا أحترم الله ورسوله والقرآن… أليس نحن الذين كنا على مر القرون أصدقاء للسلطان؟”

انهزمت قوات الأمير مراد بك المملوكي وانسحاب القوات المدافعة الأخرى إيمانا منها بعدم الجدوى من القتال. هكذا أصبحت القاهرة تحت رحمة الغزاة، وانتشر بين الناس الذعر. أسس الأزهر ديوان (بعد التفاوض مع الفرنسيين) يشرف على حكم القاهرة ويدير شؤونها، وهو مكون من ٩ أعضاء من شيوخ الأزهر. وحاول نابليون الوصول لفتوى من أئمة الأزهر من شأنها أن تسمح بجواز الولاء لنابليون بموجب الشريعة الإسلامية، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل.

داخل الجامع الأزهر تشكلت لجنة للثورة على المظالم الفرنسية واكبت ثورة القاهرة الأولى، لكن كيف كان الرد من قبل الفرنسيون؟ لم تجد القوات الفرنسية سبيلاً للقضاء على الثورة سوى باحتلال الجامع الأزهر وضربه بالقنابل واقتحامه بالخيول، وقد استشهد الكثير من الناس في هذه الحادثة، وتفاصيلها:

كانت القاهرة تشتعل بقيادة الشيوخ والعلماء، وكان الأذان يصدح من المساجد (حي على الجهاد). لم تكن القاهرة سهلة على الفرنسيين كما ظنوا. تجمع الثوار في الجامع الأزهر، ولجأ أعضاء ديوان شيخ الأزهر إلى نابليون طالبين منه التوقف عن ضرب القاهرة بمدافعه، فطلب منهم الاتصال بالثوار لإلقاء السلاح، وهو ما ما رفضه الثوار، ورفضوا كذلك دخول أعضاء الديوان إلى الجامع الأزهر.

تهوّر الفرنسيون وضربوا الأزهر بالمدافع، وانهالت القنابل على الجامع، وكاد أن يتداعى من شدة الضرب. يقول المؤرخ الجبرتي واصفا ما جرى يومها في أهم مساجد القاهرة “دخلوا إلى الجامع الأزهر راكبين الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشّموا خزائن الطلبة، ونهبوا ما وجدوه بها من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عرُّوه، ومن ثيابه أخرجوه…”.

قرر نابليون بعدها بترك مصر وتنازل عن حلم تأسيس إمبراطوريته في الشرق، وقد فر سرا من مصر إلى فرنسا، وأعطى شارة القيادة إلى (كليبر). فرض (كليبر) الغرامات على المصريين وكان شديدا عليهم، إلى أن أتاه سليمان الحلبي في يوم من الأيام، متنكرا بزي شحاذ، وهو من طلبة الأزهر. ظن كليبر أن الشحاذ سيقبل يده رغبة بالمال، لكن الحلبي مسك يده بقوة ثم طعن كليبر بالخنجر عدة طعنات قاتلة. حاكم الفرنسيون الحلبي، وقرروا قطع رأس كل من كان يعرف بخطة الحلبي، ثم حرقوا يد الحلبي وهو حي، وقتلوه بعد أن عذبوه بأبشع الطرق.

بعد حادثة الاغتيال، تولى القيادة (مينو) خلفا لكليبر، والذي أغلق الأزهر لمدة عام كامل انتقاما من الطالب الأزهري، واستمر بملاحقة العلماء والشيوخ. كانت هذه أول مرة يغلق فيها الأزهر منذ ٨ قرون ونصف ظل فيها مفتوحا لكل قاصد وطالب. ولم يفتتح الأزهر مرة أخرى إلا بعد أنباء الصلح بين الفرنسيين والعثمانيين، فعادت الحياة إلى سيرتها الأولى للجامع.

 

الخاتمة

هذه هي قصة الجامع الأزهر، منارة العلم الشرعي التي أبهرت كل من زار مصر في التاريخ الإسلامي، والمسجد الذي احتضن جميع فئات العالم الإسلامي. تأسس في عهد الفاطميين، وازدهر في العهود التالية لهم، وقد كانت العناية به ظاهرة.

قاوم الجامع الحملة الفرنسية على مصر، ليكون شاهداً تاريخياً على الأطماع الغربية، وليثبت أن دور المساجد ليس محصورا فقط في العلم الشرعي، بل هو ممتد إلى جميع جوانب الحياة.



شارك

مقالات ذات صلة