آراء

تربية حديثة، أم سمٌّ في العسل؟

أكتوبر 1, 2024

تربية حديثة، أم سمٌّ في العسل؟

في ذكرى استشهاد محمّد الدرّة السنوية، أجلس هنا وأتذكّر أنني كنت في العاشرة، مثله تمامًا، حينما شاهدت روحه ترتقي إلى السّماء على شاشات التلفاز. كان أبي يجعلنا نشاهد الأخبار معه، لا أعرف إن كان أسلوبًا فلسطينيّا في التربية، أم أنّه كان يفعل ذلك ليسكتنا وليستطيع مشاهدة الأخبار بسلام، لكنّه أفلح في كلا الأمرين. فمنذ ذلك استيقظت فيّ ثورة لا تهدأ! أذكر مشاعري التي كانت تمورُ في صدري حينها، كانت أكبر من أن يحتويه جسدٌ في العاشرة من عمره، لكنّني تعلّمت يومًا بعد يوم كيف أوسّع أركانه ليتّسع لأنين أجدادي. قصصتُ صورة محمّد الدرّة من الجريدة وعلّقتها، على حائط غرفتي فوق المكتب تحديدًا، لأراها كلّ يوم وأجدّد الثأر، وها أنا بعد ٢٠ عامًا، مازلتُ أجدّد الثأر.

لطالما تساءلت عن ذلك الشّعور الذي لازمني بعد رؤية محمد الدرّة، وربّما كانت شرارته الأولى قصص والداي عن النكبة والهجرة. محاولةً البحث في تربيتهما لنا وإن كان لأسلوبهما دور في تعزيز حسّ المسؤولية تجاه وطني رغم أنّنا تربّينا في بلاد الغرب. لكنّني كلّما استرجعت أساليبهما، كلّما اكتشفتّ أنّ ما يرِدُ فيما يسمّى بالتربية الحديثة تتناقض مع ما كانا يفعلانه.

من منهم الصواب؟

هذا كلّه والكثير غيره، جعل الشكوك تراودني فيما يخصّ “ترند” التربية الحديثة الذي نراه في كلّ مكان حولنا، خاصّةً في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يملي على الأهل كيف يربّون أبناءهم ليكتشفوا أنّ “حدس الأم والأب” يمكن أن يخطئ، وأنّ آبائنا أيضًا أخطأوا في تربيتنا، وكانوا سببًا في أنّنا عبارة عن أجيال من العُقَد الصّعبة! فمثلاً بتنا نسمعهم يحذّروننا من “صدمة الأجيال” وهي بالمفهوم البسيط؛ الصدمة التي تتناقل عبر الأجيال. ثمّ يحذّروننا من أن نشرك أطفالنا بمتابعة الأخبار، أو أن ندعهم يشاهدون ما يليق بعمرهم منها معنا، كيلا يصابوا بخوف أو قلق أو توتّر، أو حتّى صدمة. وكأنّه بإمكاننا عزلهم عن هذا الكوكب المتوتّر، الذي تعمّدوا تصميمه وهندسته هكذا، من الأساس! والكثير غيرها من أسس التربية الحديثة التي نمّت في عقلي شكوكًا عن مدى صحّتها، أو حرّي بي القول؛ شكوكًا عن هدفها الخفيّ! أنا مدركة تمامًا أنّني بهذا الكلام سأفتح أبواب الهجوم عليّ بيديّ، وجوابي سيكون حاضرًا؛ وهو أنّني لست ضدّ التربية الحديثة بمجملها، ولست مع التربية التقليديّة بمجملها أيضًا، فلنعتبرها منطقة رماديّة.

“تربية حديثة” أم قولبة للأجيال؟

 

لن يختلف اثنان على أنّ الأسرة هي نواة المجتمع، وأنّ التحكّم ببعض جوانب التربية فيها هي السبيل للتحكّم بجوانب مستهدفة من المجتمع، كتعزيز أهميّة العلم ليخرج جيلاً من العلماء مثلاً، لكنّني هنا سأتناول جوانب أكثر حساسية من ذلك. فبالنسبة لعلم النفس ومن ضمنها التربية الحديثة، إنّ هذا الثأر الذي كنت قد تحدّثتُ عنه، ما هو إلا “الصدمة المتوالية عبر الأجيال”. الصدمة المنتقلة أو المتوالية بين الأجيال هي نظرية في علم النفس تشير إلى أن الصدمة يمكن نقلها عبر الأجيال. حيث يعاني الجيل الأول من الناجين من الصدمة، ثم ينقلها إلى الأجيال المتوالية من النسل من خلال آليات معقدة لاضطرابات الكرب التالية للصدمة النفسية.

وسأكون صريحة معكم، فكلّما قرأت عنها، كلّما اعتلت على وجهي تلقائيًا نظرة ساخرة! فليس كلّ الصدمات متشابهة! هناك صدمات تزول مسبّباتها كالاتجار بالعبيد مثلاً، لكن صدمتها تبقى وتنتقل عبر الأجيال. لكن هناك صدمات مسبّباتها لم تزول بعد، بل هي مستمرّة ل٧٦ عامًا ولا سبيل لإيقافها سوى بتسميتها ثأرًا كي نثأر فعلاً. فالحالات التي تناولتها هذه الدراسات، شملت مثلاً الأمريكي ذو البشرة السوداء وصدمة الرقّ والعبودية، وهذا أمر لن ينفع مقارنته مع “صدمة” الفلسطيني التي مازال مسبّبها مستمرًّا “الاحتلال”.

 إضافة إلى ذلك، فكلّما حاول أحد الجدال مع هؤلاء المختصّين في هذا المجال، فسيدعمون آرائهم بالكثير من الدراسات الأخرى التي صدرت عن دول غربيّة لها ماضٍ أسود بالاستعمار والاتّجار بالرّقيق، والإبادات الجماعية للسكّان الأصليين لتلك البلدان التي عاثوا فيها الفساد وتسبّبوا لما تبقّى من أهاليها بتلك “الصدمة” التي يتحدّثون عنها اليوم بكلّ ثقة. غير مدركين أنّهم باستخدامهم لتلك الدراسات لدعم وجهة نظرهم، يزيدون من الشّكوك نحو الأمر برمّته، فموضوع الدراسات هي بحدّ ذاتها مؤامرة! لن أخوض في مسألة “صناعة الأبحاث” لعمقها، لكنّني مررت عليه مرور الكرام لعلاقته بما أرمي إليه. فالدراسات التي دائمًا ما يستخدمها هؤلاء المختصّين، والصادرة غالبًا عن دول غربيّة، عادةً ما تكون مدعومةً ومموّلة من قِبَل لوبي مخصّص لدعم الأبحاث التي تخدم مصالحهم، وتدعم الأفكار المرغوب بانتشارها بين المجتمعات حول العالم.

عودةً إلى النّار التي أشعلها محمّد الدرّة في صدورنا، وإلى ذلك الثّأر الذي صار العالم برمّته يعلم أنّه، والعقيدة المتوارثة، والذاكرة المتناقلة عبر الأجيال في كلّ بيت فلسطيني خاصّةً، وعربيّ عامّةً، هم السرّ وراء بقاء شعلة القضيّة الفلسطينية متّقدة وبقوّة في ظلّ كلّ هذا التحريف التاريخي والتلاعب الإعلامي على مرّ السنوات. هل كان هدفهم من هذه “التربية الحديثة” مثلاً، ومن تمويل كلّ الأبحاث التي تدعمها، تغيير أساليبنا التربوية التي ستضمن لنا بقاء القضيّة تنبض بين أجيالنا، فقط لحماية أنفسهم من عواقب جرائمهم؟

شارك

مقالات ذات صلة