يبدو ساذجًا وسخيفًا أن يُطرح هذا السؤال هنا والآن، لكنّ اضطرابًا جماعيًّا أو شبه جماعيّ ألمّ بالكثيرين من معسكر مناصرة المقاومة ذاته، المنحازين للتحرير عبر تاريخ كتاباتهم ومواقفهم، بعد تكرار الضربات وتتابعها، كأنّها- كما سبق وقلتُ في موضعٍ مشابه- أفقدتهم توازنهم الفكريّ والنفسيّ، وخلخلت معتقداتهم انحيازًا للحقّ وانتصارًا له، ولعلّ هذا ما قُصدَ بمثل هذه الضربات في تلك اللحظة تحديدًا (تفجير العدو لأجهزة البيجر، وغيرها من أجهزة الاتصال) ثم اغتيال السيد حسن نصر الله وقائمة القادة السياسيين والعسكريين لحزب الله مؤخّرًا، وهذه اللحظات بدء العمليّة العسكريّة البريّة بالجنوب اللبناني.
وهي خسارات ثقيلة لا شك، وربّما تؤثّر في مسار المعركة ومصير المحور كلّه حال عدم تداركها على الأرض أو في مفاوضات ما، لكنّها كذلك لا يمكن أن تكون “هزيمة راسخة/ختاميّة” إذ لم تنتهِ المعركة بعد، ولم يضع المقاتلون أسلحتهم أو تعلن المقاومة استسلامها-مثلاً، أو يقتلوا جميعًا عن بكرة أبيهم، وهي المعطيات التي يمكن أن نقول بها في لحظة أنّها “الهزيمة”.
على العكس مازالت جبهتان على الأقل (غزّة واليمن) متماسكتين قيادةً وميدانًا، وقادرتين على إيقاع خسائر مؤلمة في نطاق عملياتهما (إضافة لتواصل مقاومتهما تواصلاً بطوليًّا، لا يبدو فيه أيّ ارتباك)، كما أن التواصل والتعليمات والأداء التنظيمي يسير بشكل طبيعي في حدود المعركة وظروفها حتى الآن، وثالثةً ما زالت مشاركتها إسناديّة شكلاً ومضمونًا وكثافةً ونوعًا (العراق)، إذًا يبدو أن أثر الضربات أعمق على الجبهة اللبنانيّة للخروقات الأمنيّة الحاصلة وكشف مواقع قيادات الصفّ الأول واجتماعاتهم إلى آخر ما جرى.
القفز على المرحلة لاستنتاج نهائي، وإجابة يقينيّة في الأذهان بوقوع الهزيمة، ثم الانطلاق من ذلك إلى تصوّرات لحظيّة ومستقبليّة ليس ضربًا من الجنون فحسب، إنّما إنهزاميّة تهدر الموجود من قوّة (وقد تأثّرت هذه أصلاً بالضربات وطول المعركة)، ولحسن الحظّ أنّ سادة المقاومة لا يتابعون آراء “حاضنتهم الشعبيّة” وإلا لأصابهم الإحباط.
ولعلّ هذا الحال البئيس واحدٌ من أعراض البناء على مسلّمات قدريّة، تنطلق من حتميّات (تاريخيّة أو دينيّة أو فلسفيّة،..)، والانطلاق من مسلّمات قدريّة خاصّة فيما يتعلّق بالنصر والهزيمة جنون، لا معنى له على الإطلاق إلا التكاسل عن التفكير بعد القعود عن الفعل الذي وقع فيه غالب المعسكر بتعريفه الواسع الممتدّ (باستثناء حملة السلاح ومسانديهم ومداويهم وقليلٌ من عقلاء المناصرين).
والحقُّ ألّا أقدار في المواجهة، هناك أسباب ونتائج، وكلّ مواجهة قابلة لإحدى النتيجتين بناءًا على ما فيها من معطيات لدى جبهتي الصراع، وعليه يبدوا أن الوقت قد حان للتخلّص من الاعتقاد بحتميّة النصر (الذي يركن عليه الكثيرين فرجةً وقعودًا) أو حتميّة الهزيمة (إذ في ظلال وقوعها لا معنى لأي فعل، سوى البكاء او الانتحار).
وفي حدود ما يصلنا من معلومات فالمقاومة باقية وصامدة ومستمرّة، وإنّ تزلزلت إحدى جبهاتها، وإن تلقّت هذه الضربات القاسية والموجعة -باعترافها هي- (والضربات والخروقات موطنها بيروت،حتى الآن، لا الجنوب) لكنّها مازالت قادرة على المواجهة وإدارة المعركة حتى اللحظة، رغم الخيانات والصهينة التي تحيط بيها من كلّ جانبٍ، ورغم ما ستكشفُ عنه الأيام القادمة مما فعله العرب دعمًا وتمويلاً وربما مشاركةً عسكريّة للقضاء على المقاومة مشروعًا وتنظيمات.
وأخيرًا: توقفت عن الاعتقادِ بانتصار الخير والحق في الفانية منذ سنين لا حصر لها، تجربةً ومعرفةً وقبلهما شعورًا ثقيلاً، لكنّ ذلك على فداحته لم يُفقدني اليقينُ بالدورِ بعيدًا عن مآلاته: ننتصر للحقّ وإن لم ينتصر (بعيدًا عن حسابات المآل والجهوزيّة والقوّة، دون إنكارهم) ومع كلّ ضربةٍ يزدادُ تمسّكي بذات المبرّر للاعتقاد والحركة، وإن بدا سيزيفيًّا، لكنّه على الأقلّ في لحظات فقد التوازن قد يجنّبك السقوط مع الخسارة، مهما كانت فادحة.