أدب
جُمِع شعر الشماخ بنِ ضرار الذبياني من روايتين، رواية كوفية وهي رواية محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي، ورواية بصرية وهي رواية أبي نصر الباهلي عن الأصمعي.
وقد أنجز صلاح الدين الهادي عملين رائعين عن الشماخ، وهما تحقيقه لديوان الشماخ، وكتابه “الشماخ بنُ ضرار حياته وشعره”. وقد بين صلاح الدين الهادي أنه عند تحقيق الديوان اعتمد في الأساس نسخة محمد محمود محمود بن التلاميذ الشنقيطي.
الشماخ لقب غلب على الرجل، فاسمه معقِل بن ضرار بن حرملة بن صيفي، وهو جِحاشي أولا، لأنه بني جحاش بن بجالة، ثم هو ثعلبي ثانيا من بني مازن بن ثعلبة، ثم فوق ذلك هو ذبياني (ذبيان معروفة هي من أكبرِ قبائل غطفان التي هي إحدى جماجم العرب التسع).
كان الشماخ مخضرما، فقد عاش في الجاهلية بعض شبابه وأدرك الإسلام، ثم أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤرخون يختلفون في صحبته.
شارك الشماخ مشاركة مؤثرة في معركة القادسية التي هزم فيها المسلمون الفرس، فكان في تلك المعركة من خطباء المسلمين وشجعانهم، وقد رجّح صلاح الدين الهادي أن يكون الشماخ توفي بين عامي 30 و32 للهجرة في الكوفة، وكان قد نزح إلى الكوفة مع من نزح من قبائل غطفان.
أم الشماخ هي معاذة بنت بُجير وهي أيضا ذبيانية، وقد توفي أبوه وهو صغير، فرعته أمه مع أخويه مُـزرّدٍ وجَزْء، وكانوا ثلاثتهم شعراء. وكان مزرد أسلطهم لسانا فكان معروفا بالهجاء ولم يكف عن الهجاء حتى تهدده الخليفة عثمان بن عفان رضي الله فأمسك حينئذ وخاف على نفسه.
صلة الشماخ بأخويه كانت قوية وكان يحبهما ويحب أبناءهما، سوى أنه في آخر أمره هجر أخاه جَزْءًا فماتا متهاجرين، وذلك لأن الشماخ أحب امرأة من قومه بني ثعلبة اسمها كلبة بنت جوّال، وعزم على الزواج بها، ثم خرج في سفر له، فلما رجع وجد أخاه جَزْءًا قد تزوج كلبة هذه، فغضب الشماخ وآلى ألا يكلم أخاه أبدا، وجعل يقول:
لنا صاحب قد خان من أجل نظرة – سقيم الفؤاد حب كلبة شاغله.
ولم يكلم أخاه أبدا بعد ذلك وماتا متهاجرين. لكن صلته بأخيه لم تنعكس على صلته بابن أخيه جبار بن جزء الذي رثى الشماخ بقوله:
يا عينُ بكي الدمع كل صباحِ – وابكي على الشماخ كل رواحِ
علاقة الشماخ بكلبة هذه، تدخل في مجمل علاقاته النسائية الفاشلة. فقد كانت زيجاته فاشلة، وكذلك علاقاته الغرامية لم تكن تعمر طويلا. ويظهر كره النساء له في زواجه الأول، حين تزوج امرأة من سليم تدعى هندا. وخلاصة القول أن هندا هذه كانت كما يقول المعاصرون “داخلةً على طمع”، فقد كانت جميلة متعالية وعندما خطبها الشماخ إلى قومها، قالت لهم “أنكحوا القرد وخذوا ماله” تقول لهم: “إنما يهمنا المهر الذي أتى به”، وبالفعل عندما رحل بها لم تلبث أن نشزَتْ به، وجعلت تؤذيه بلسانها كي يطلقها، فضربها، وحينئذ فرت إلى أهلها. فجعل هو يقول:
أَلا أَصبَحَت عِرسي مِنَ البَيتِ جامِحاً — عَلى غَيرِ شَيءٍ أَيُّ أَمرٍ بَدا لَها
عَلى خَيرَةٍ كانَت أَمِ العِرسُ جامِحٌ — وَكَيفَ وَقَد سُقنا إِلى الحَيِّ مالَها
الجامح هي المرأة التي خرجت من بيت زوجها إلى أهلها دون أن يطلقها زوجها. ومع أن الشماخ غيرُ هجَّاء، فقد عرض بهذه المرأة وقومها بني سليم فجعل يقول أبياتا منها:
وإنكِ من قوم تحِن نساؤهم – إلى الجانب الأقصى حنين المنائح
وإياكمُ لا أخرِقنَّ بيوتكم – بمحتفل في أيبس العظم جارحِ
تزوج الشماخ امرأة أخرى اسمها عائشة، ويبدو أن بخله قد آذاها فجعلت تطالبه بأن يخصص بعض الوقت لها ويترك إبله والتعزب فيها، فجعل يقول:
أعائشُ ما لأهلك لا أراهم – يُضِيعون الهِجان مع المضيعِ
وكيف يضيع صاحب مدْفَـآتٍ – على أثباجهن من الصقيع
هي لامته على إمساكه فقال لها: ما لأهلك لا أراهم يضيعون أموالهم فكيف تأمرينني بشيء لا يفعله أهلك؟ وكيف أضيع إبلا سمانا شحمها يلمع كالصقيع. هذه أيضا من تجارِبه الفاشلة في الزواج.
أما تجاربه الغرامية خارج الزواج فلم يكن الأمر بعيدا عن هذا، فقد أحب امرأة اسمها ليلى، ولكن لم تكن من نصيبه وقد تغزل بها مرات، ومن ذلك قوله:
ألا ناديا أظعان ليلى تُعرَّجِ – فقد هِجنَ شوقا ليته لم يُهَيَّجِ
إلى أن يقول:
يُقِرُّ بِعَيني أَن أُنَبَّأَ أَنَّها — وَإِن لَم أَنَلها أَيِّمٌ لَم تَزَوَّجِ
وَلَو تَطلُبُ المَعروفَ عِندي رَدَدتُها — بِحاجَةِ لا القالي وَلا المُتَلَجلِجِ
وَكُنتُ إِذا لاقَيتُها كانَ سِرُّنا — لَنا بَينَنا مِثلَ الشِواءِ المُلَهوَجِ
أحب الشماخ أيضا الميلاء التي لم تكن من نصيبه وتزوجها رجل من تغلب، ومما قاله فيها:
فإن حلت الميلاء عُسفان أو دنت – لحَرّةِ ليلى أو لبدر مصيرها
ليبك على الميلاء من كان باكيا – إذا خرجت من رحرحان خدورها
ثم يقول شاكيا هجر الميلاء هذه وتمنعها عليه:
وماذا على الميلاء لو بذلت لنا – من الود ما يخفى وما لا يضيرها
أحب الشماخ أيضا امرأة اسمها أسماء، كان نصيبه منها مثل نصيبه من سابقاتها ويقول فيها من رقيق غزله:
صَدَعَ الظَعائِنُ قَلبَهُ المُشتاقا — بِحَزيزِ رامَةَ إِذ أَرَدنَ فِراقا
مَنَّينَهُ فَكَذَبنَ إِذ مَنَّينَهُ — تِلكَ العُهودَ وَخُنَّهُ الميثاقا
وَلَقَد جَعَلنَ لَهُ المُحَصَّبَ مَوعِداً — فَلَقَد وَفَينَ وَعاقَهُ ما عاقا
يا أَسمُ قَد خَبَلَ الفُؤادَ مُرَوِّحٌ — مِن سِرِّ حُبِّكِ مُعلِقٌ إِعلاقا
فَسَلَبتِهِ مَعقولَهُ أَم لَم تَرَي — قَلباً سَلا بَعدَ الهَوى فَأَفاقا
عَزَمَ التَجَلُّدَ عَن حَبيبٍ إِذ سَلا — عَنهُ فَأَصبَحَ ما يَتوقُ مَتاقا
لم يكن الشماخ معروفا بالغزل، بل كان معروفا بالوصف، وصف المظاهر البدوية، فوصف حمر الوحش، وصف الناقة، وصف القوس. ووصفه للحمار أخذه عنه بعض الشعراء، فمثلا وصف غيلان للحمار في بائيته هو وصف يطابق تماما وصف الشماخ له. وقد بلغ من معرفة الشماخ بالحمير أن الوليد بن عبد الملك لما سمع بعض شعره في وصف الحمير، قال: ما أوصفه لها، إني لأحسَب أن أحد أبويه كان حماراً.
ومن شعر الشماخ بيتاه السائران اللذان يمدح بهما عرابة الأوسي رضي الله عنه حيث يقول:
رأيت عرابةَ الأوسيَّ يسمو – إلى الخيرات منقطع القرينِ
إذا ما راية رفعت لمجد – تلقاها عَرابة باليمين
وذلك من قصيدته التي أولها:
كلا يوميْ طُوالةَ وصل أروى – ظَنون، آن مُطرح الظُّنونِ
وهذا البيت هو من الشواهد، والشاهد فيه تقدم الظرف على الجملة الاسمية، هو يريد أن يقول وصلُ أروى ظَنون في كلا يومي طوالة.
فقال كلا يومي طوالة وصل أروى ظنون، وطُوالة موضع، والظَّنون هي البئر قليلة الماء، لا يوثق بمائها، فهو جعل وصل محبوبته أروى ضعيفا غير موثوق به كماء البئر الظنون، وذلك لأن أروى خدعته وتمنعت عليه في يومين متتاليين في موضع يقال له طوالة، فهو يقول إذا كان وصل أروى مجرد ظن فقد حان ترك ذلك الظن، فهذا معنى قوله آن مُطَّرح الظنون أي آن لك أن تترك أروى وتتسلى بغيرها عنها.
عشتم طويلا.