تجارب

حين يقتل الاحتلال امرأة جميلة

سبتمبر 27, 2024

حين يقتل الاحتلال امرأة جميلة


أعرفُ يا رشا تفاصيل هذه الصورة جيداً، أنا التي أراها لأول مرّة، لكنها ليست غريبةً عنّي، أراكِ كيف تختارين هذا الفستان الجميل لجلسة تصوير عيد ميلادك أيتها الجميلة اليافعة، أعرف كيف ابتسمتِ وأنت تنظرين في غرفة القياس لنفسك فيه لأول مرّة وصديقتك تخبركِ أنكِ كالأميرة، وحين وجدتِ الشال الأنيق المتناسق معه اكتمل فرحك، وانتشت رقتك، رأيتكِ وأنتِ تختارين شكل قالب الكيك وعليه ربطة بيضاء ناصعة تشبه قلبك النقيّ، أمّا بوكيه الورد ذلك فهو امتداد روحك المُعشبة بين السماوات والأرض، لقد عشتُ ذلك الإحساس الفريد حين كنت أختار كل تلك التفاصيل من أجل جلسة تصوير حفلة مناقشتي للدكتوراه، حين وجدت ذلك الفستان والشال اللائق وحين اخترت قالب الكيك ولكنني اخترتُ ضمّة ورد في يدي دون قاعدة كتلك التي اخترتها، كنت سعيدة جداً وكان ذلك اليوم من أجمل أيام حياتي.


نحن الآن نعرف بعضنا البعض جيداً، لكنك تقطفين الورد من الجنّة وأنا لا أجد ورداً لأقطفه، تضحكين بين الملائكة، وأنا توجعني الابتسامة بين شتات النزوح والخيام والقصف والصواريخ، ترتدين فستانك الليلكي الجميل ولكن من الديباج والحرير، وأنا وجدت فستاني محروقاً من القذائف، تملكين يداً سحرية، تتنزل لها الفواكه كلّما اشتهتها، ويفوح منها عبق المسك، بينما يدي موجوعة ومثقلة حتى وهي تحرك فنجان قهوة صغير.


تمتلكين أجنحة كالحوريات، وأنا تتقطع بي السبل، لا سيارات في غزة لأنّه لا وقود لتشغيلها، أو تخنقك رائحة زيت القلي وهم يضعونه بديلاً عن الوقود، تفوقتِ عليّ يا رشا، أنتِ الآن أكثر سعادة، وأنا أكثر حزناً.


لا يفهم الاحتلال الصهويني ماهية الجمال، لا يعرف ماذا يعني أن يقتل امرأة جميلة؟ إنّه يغتال أسراباً من اليمام المحلّقة، ويحرق مئات الرسائل تحت أجنحة الحمام الزاجل، لقد وأد ثمار الفراولة بالفسفور، ومزّق صورةً تذكارية كبيرة كانت معلقة للعائلة وسط المنزل، إنّه يخنق أوتار الكمان، ويصيب النوتات الموسيقية بالتشنج، يعصر النجوم فيبهت ضوءها، ويحبس الصبح بين دبابتين، لأنّ الاحتلال لا يحبّ الجمال، إنّ قبحه يغار من جمال الشهداء المطلق، فكيف إن كانت امرأة مثلك يا رشا ؟!


يغار من جمال شجرة الزيتون على عتبة البيت، ويغار من قرميد السقف الأحمر لبيوتنا الأنيقة، ومن ضحكات الأطفال المورقة، ومن ذكاء الرجال المتوقد، ومن شغف النساء الحالمات، يغار من قدرة رجل مبتور القدمين إثر غارة صهيونية لكنه مازال يستطيع رفع إشارة النصر بإصبعيه، ويغار من أناقتنا ومن شُربنا للقهوة، ومن قوّتنا ومن صمودنا الملحميّ، إنّه لا يحبّ أيّ أحدٍ يقول له أنت عدوٌّ مارق، وأنا هنا باقٍ لأنني صاحب الأرض!


كل شهيدٍ قتله الاحتلال كان عدوّنا يخاف منه، يخاف أن يتكلم الشهيد ويقول أنت مارق وأنا باقٍ، وجمالك ذلك يكشف كم أنّه عدوّ قبيح، قتلك لأنّه لا يريد أن يراكِ مثل كل شهيد فلسطيني ولبنانيّ، لكي لا تعودي مرّةً أخرى وتصنعي جلسة تصويرٍ جميلة بجمالٍ أكبر، لقد كان احتلالاً ضعيفاً جداً، لم يخف منا فحسب، بل كان يخاف من صورنا التي تصورناها والتي سنتصورها، لذلك كان يقتل المصور، وحين نجت الكاميرا أخذ يقتل كل أصحاب الصور فيها.


بينما تكملين جلسات تصويرك في السماء، وقد ازددتِ جمالاً، أدركُ أننا أمام عدوّ غبيّ أحمق لا يفهم بأنّ الشهداء لا يموتون، إنّه يجعلهم أكثر حياة وخلوداً، ويجعل نفسه أكثر موتاً وفناءً..


والسلام عليكِ من غزة أيتها الشهيدة الجميلة من لبنان..


* الصورة في تصميم غلاف المقال للشهيدة رشا غريب، طالبة في السنة الرابعة بكلية الطلب قصفها الاحتلال في غارة على لبنان.



شارك