آراء
واقفا يحدّث الجموع التي لا ينصت أغلبها له، كأنه مجنون من عالم آخر، و”درويش” من دنيا ثانية، يخاطب فيهم العقل وأكثرهم لا يعقلون، يناديهم بكل ذرة فهم وإيمان وإخلاص بهم وقلما تجدهم مجتمعين في إنسان واحد، يريد أن ينبههم لذلك الخطر المحدق بهم، وهم يحدقون بأماكن أخرى ومشغولون بمواضيع -على سذاجتها- أهم عندهم بكثير، ينبههم تكرارا ومرارا ولا ينصت له إلا البعض القليل دون إدراك تام بما يقوله أيضا، لكنهم يؤيدونه لأنهم يحبونه لا أكثر، وهو وحده، في وادٍ غير ذي زرع، ولا أمن، ولا علم، يقول لهم كيف تمتلك الأمم إرادتها، وتملك زمام أمورها، دون تدخل مباشر ولا غير مباشر من عدو مسعور ولا حليف متقلب، لكن سبق السيف العذل، ورمت به الأمة نفسها إلى التهلكة، بحمقاها وأنذالها، بعملائها وسذّجها، بعسكرييها و”نشطائها”، حين طبَّعوا مع إسقاطه بعد عام واحد فقط من تجربة التغيير.
ثم مضى الرئيس الراحل محمد مرسي إلى مثواه على مهل، كأنه يتيح الفرصة لمن أراد انتهازها ليفعل شيئا، لينقذ البلاد والعباد، لكن حتى القوم الذين ناصروه -على إخلاصهم- كان يتصدرهم حمقى آخرون، أعانوا قاتلوه على قتله بحداثة عقولهم وسطحية أفكارهم وأنانية قلتهم ودناءة بعضهم، فوضعوا رقبته تحت يد السياف، وأحنوا رقبته تحت مقصلة الإعدام، وأعدوا العدة من حيث لا يحتسبون لجريمة إعدامه، بينما يتلذذون في جناتهم المؤقتة، يتمرغون في نعيم العطالة والبطالة، وذلك الرجل الذي عاهدوه على نصرته من حيث خذله الآخرون، كانوا هم أول من خذلوه، وإن كان ذلك لا يعني موضوعنا الكثير، فإنه استدراك مهم، حتى لا يظن الجاني أنه نجا بسوء تخطيطه تارة وبغبائه تارة، فالقاتل اثنان، مجرمٌ أصدر الحكم، ومجرمٌ أسلم المحكوم له.
وقف الرئيس الراحل محمد مرسي -الشهيد المقتول غدرا في قفص محاكمته الزجاجي الذي لا يُسمع منه مستغيث لكنه يُرى وهو يلفظ آخر أنفاسه في تلذذ حقير-، وقد كان يوم كلمته تلك في مصنع الحديد والصلب بحلوان بمناسبة عيد العمال وهو بينهم دون حاجز ولا مشهد مزيف، قبل شهرين من الانقلاب عليه، يقول بصوت مرتفع حالم: “اللي بيطلب من غيره مبيمتلكش إرادته؛ لازم لازم ننتج غذاءنا، لازم ننتج دواءنا، لازم ننتج سلاحنا”.
المفارقة التي قد لا تفرق مع البعض شيئا، وقبل أن أكمل مقالي وتستأنف قراءتك، وبعيدًا نسبيا عن الدكتور مرسي نفسه، أن ذلك المصنع برمته، الذي كان الرئيس الراحل واقفا بين آلاته يخاطب الأمة، وعلى رأسها عمالها، عُرض للبيع في مزاد علني، وأعلنت الحكومة المصرية رسميا الشروع في تصفيته، في 28 سبتمبر 2022، بعد 10 أعوام كاملة من ذلك اليوم.
ولعل كلماته تلك كانت ضمن كلمات كثيرة، لكنها الأهم، التي جعلت العدوّ يتربص به، ويترصد له، ويخطط لاغتياله، العدو ذلك هو كل المنتفعين من تأخر الأمة وعدم امتلاكها إرادتها، كل الذين يريدون أمما “مخصيّة” بلا سيادة ولا قيادة..
يريدون جيوشا تحمل سلاحا لا تملك شيفرته، وتطير بطائرات لا تعلم مكوناتها، وتشتبك بدبابات لا تستطيع تصنيع مثلها حين تُفقد الواحدة منها، ويريدون شعوبا لا تشبع، وإن جاعت لا تستطيع أن تطعم نفسها بيديها ولا أن تملك قوت يومها، وإنما تحسب كل شهر الوارد إليها، ثم تقسمه فتاتا بينها، وهي تتطلع إلى المعونة القادمة، وتتجرّع فضلات ما يزرع الآخرون وينتجون، من القمح المسرطن، واللحوم المعدمة، والمياه معادة التدوير، ويريدون شعوبا لا تسلم ولا تتعافى، مريضة سقيمة مشغولة بموعد الإبرة المقبلة، وتستعيض عن النظر إلى حدودها وعدوها وأمنها بالنظر إلى الساعة لمتابعة مواقيت الدواء، ثم إن الدواء ذاته هو الداء، حيث لا تنتجه ولا تعلم ما فيه، وإنما تستورد “عافيتها” من أعدائها، وهم الذين يقررون لها ما تتناوله، إن إرادوا كانت الجرعة مثبطة مسكنة، وهي لا تشفي أبدا، وإن أرادوا كانت الجرعة مكثفة مركزة قاتلة، تقضي عليهم في بطء من حيث يظنون أنهم يعالَجون، بينما في الحقيقة هم يعاجَلون، وتُقبض أرواحهم وأجسامهم قطعةً قطعةً وفردا فردا.
ذلك الاغتيال الذي حصل، منذ أولى لحظات الانقلاب، ثم السجن والعذاب، ثم القتل في صمت وفي علن، كان اغتيال أمة لا رجل، وكان اغتيال وطن كبير لا دولة، وكان اغتيال إرادة حرة تقاوم استعمارها الناعم واحتلالها الخشن لا مجرد رئيس انقُلب عليه وانتهى الأمر؛ كان ذلك اغتيال منهج حقيقي، على الأقل كانت أدبياته ونظرياته حاضرة، وقد كانت لا محالة مع الوقت ستنتقل من طور التصفيق بعدها إلى طور التطبيق، بيد العامل ذاته، الذي يؤمن بالكفاح المسلح، بالحديد الذي لا يفل إلا بالحديد، في مصنع الحديد نفسه، حيث كان من المفترض أن تنتج الدولة سلاحها وترسانتها، لا أن تنتج بدلا من ذلك مخبوزات العيد وبيض شم النسيم.
وفي لبنان، كانت أجهزة البيجر التي يحملها عناصر حزب الله، قنابل موقوتة، لأنها مستوردة من الخارج، وذلك “الخارج” كبير وواسع وبعيد، ولا تعلم إلى أي مدى يرتبط بعضه ببعضه إذا ود التآمر عليك، فكانت الشركات وهمية، والاتفاقات مزيفة، والخطة محكمة، لأن يقع الحزب في الفخ، ويبتلع حصان طروادة الحديث، ولا يعلم أنه يحمله أكفانه في يده، من حيث أراد تأمين نفسه، باستبدال تكنولوجيا أجنبية دخيلة مقلقة، بتكنولوجيا أخرى أقل خطرا كما يظنّ، لكن لا أمان يكمن في أي مستورَد، في هكذا عالم بالتحديد، ولو كان حبة من خردل.
تلك الكلمات الخالدة كانت أول ما حضر في عقلي، حين سبق الرجل عصره، وسابق زمانه وأجله، ووضع للأمة الخطوط العريضة للمعادلة وإن لم تدركها في حينها، وإن لم يشهد هو تحقيقها، لكنها ظلت عيانا بيانا أمام الجميع، في مصر وغيرها، والآن وبعد قليل، سراجا ونبراسا، ودليلا محكما، لمن أراد أن يمتلك إرادته، أن يملك عافيته في دوائه الذي يصنع، وأن يملك قُوته وقوّته في قمحه الذي يزرع، وأن يحمي هذا وذاك ونفسه والأرض التي تحته بسلاحه الذي به يدفع ويمنع.