آراء

ما الجدوى من المثقفين؟

سبتمبر 19, 2024

ما الجدوى من المثقفين؟


“مهمة المثقف و المفكر تتطلب اليقظة والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق أو الأفكار الشائعة باستمرار.” – إدوارد سعيد


يُطلب من المثقف أن يطلب العلم ويكشف الحقيقة.. لكن من هو المثقف وما دوره الحقيقي؟ وما هي خيانة المثقف وتأثيرها على المجتمعات؟


من هو المثقف؟


يختلف تعريف المثقف بين الناس، فالبعض يقول إن المثقف هو الأكاديمي الباحث في تخصصه، والبعض الآخر يعرّفه بأنه الشخص الذي يتطرّق للأسئلة الكبرى، وتجد من يعرّفه بأنه المفكّر المشتغل في الكتابة، والبعض يعرّفه بأنه من يساهم بصنع الثقافة؛ إذ أن ثقافة المجتمع تختلف وتتغير مع مرور الوقت.


ازدهر نموذج (المثقف) بعد الثورة الفرنسية تحديدا، رغم وجود شعراء وأدباء قبل ذلك. يوجد أكثر من ١٠٠ تعريف للمثقف، ولا اتفاق حول هذا المفهوم الشائك. لكن كل التعريفات تتفق على أن المثقف يحمل قدرا معينا من المعرفة، وأنه ينخرط في الشأن العام.


المثقف عند غرامشي


أنطونيو غرامشي هو فيلسوف ومفكر ماركسي إيطالي، عاش في القرن الـ ٢٠،  ودرس في كلية الآداب في مدينة (تورينو) الإيطالية، ثم اشتغل في النقد المسرحي. أبدع غرامشي في نظرياته داخل الفكر الماركسي، وتأثر بكتاباته عدد من المثقفين المؤثرين مثل نعوم تشومسكي، وإدوارد سعيد، وميشيل فوكو. سنة ١٩٢٦م، سُجن غرامشي من قبل النظام الفاشي الإيطالي، وكتب غرامشي سلسلة من المقالات المعروفة باسم (رسائل السجن).


يقترح غرامشي مصطلح (المثقف العضوي) ويطلقه على المثقف الذي يتميز بعدم الانكفاء على الذات، بل ينخرط في المجتمع ويسعى لإصلاحه. هذا المثقف العضوي يهدم الأفكار الخاطئة ويبني التصورات السليمة. المثقف لا يتعالى على المجتمع بل يتخذ مواقف إصلاحية بغرض الإصلاح. هكذا يكون المثقف العضوي فاعلاً في المجتمع.


 كتاب خيانة المثقفين لإدوارد سعيد


إدوارد سعيد، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، والمعروف بكتاباته في الأدب والسياسة، كتب أكثر من ٢٠ كتاباً، ودوّن مئات النصوص. أحد هذه النصوص كان بعنوان (خيانة المثقفين)، يوضّح فيه إدوارد سعيد ظاهرة خيانة المثقف لمسؤوليته الإصلاحية في الحروب، فيقول أن بعض المثقفين في الولايات المتحدة الأمريكية تجده يدافع عن موقف وطنه في الحروب بشكل مطلق، دون أن ينبه إلى حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس التطهير العرقي المذموم أخلاقياً! هذا ملحوظ بتغطية الإعلام الأمريكي الذي يزيّن الامبريالية ويشوّه صورة الشعوب الخارجية. تجد الإعلام والكتّاب والصحافة بذل كل ما في وسعها لتبرير جرائم أمريكا في الخارج، وتحديداً الدعم المطلق للكيان المحتل.


يستمر الدعم السخي من الولايات المتحدة الأمريكية للكيان الصهيوني وسط تبرير عدد كبير من المثقفين الأمريكان، وتلعب وسائل الإعلام دورا هاما في تشكيل الرأي العام ودفعه نحو دعم الموقف الأمريكي.


في هذا السياق يقول إدوارد سعيد: “إن كانت الحياة الإنسانية مقدسة، يجب أن لا يضحى بها باحتقار وإن لم يكن الضحايا من البيض والأوروبيين. يجب دائما على المرء أن يبدأ بمقاومته من وطنه ضد السلطة كمواطن يمكنه التأثير.. لكن يا للأسف، فقد سيطرت القومية المتدفقة المتقنعة بالوطنية والمصلحة القومية على الشعور النقدي، الذي يضع الولاء للأمة فوق كل اعتبار. في تلك النقطة ليس هناك سوى خيانة المثقفين والإفلاس الأخلاقي الكامل.”


نعوم تشومسكي ودور المثقف


أما نعوم تشومسكي، أستاذ اللسانيات في جامعة MIT العريقة، فله موقف مشابه لإدوارد سعيد، فقد كتب مقالة مناهضة لحرب فيتنام بعنوان (مسؤولية المثقفين) يقول فيها أن المثقف عليه واجب أخلاقي لا يمكن أن يتنازل عنه. هاجم تشومسكي بعض المثقفين الذين دافعوا عن غزو أمريكا البشع لفيتنام، وقال أن هؤلاء ليسوا إلا أتباع لسلطة الدولة.. لأن المثقف دوره قول الحقيقة. كان موقف تشومسكي ضد الغزو الأمريكي لفيتنام، وكان موقفه مشابها في الغزو الأمريكي للعراق.. والذي وصفه بقوله: “غزو أمريكا للعراق هو جريمة القرن”.


وصحيح أن الكثير من الأمريكان لم ينخدع بأكاذيب المثقفين وتزييف الإعلام عن غزو العراق، والدليل تظاهر الكثير في نيويورك وشيكاغو وغيرها من المدن الأمريكية ضد الحرب.. لكن استطلاع لمركز (غالوب) أثبت أن ٧٦٪ من الأمريكان أيدوا هذا الغزو العسكري عام ٢٠٠٣. ورغم سذاجة أسباب الحرب، إلا أن المثقف والسياسي والإعلامي قدروا على تشكيل الرأي العام في ذلك الوقت وبرروا لموقف السلطة.


المثقف عند مالك بن نبي


الجزائري مالك بن نبي يُعد من أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين، واهتم بمسألة الثقافة والحضارة بشكل كبير في أطروحاته. من مؤلفاته (الظاهرة القرآنية) و (شروط النهضة). عمل كمدير عام للتعليم العالي في الجزائر، وكانت كتاباته ذات التأثير الكبير على المجتمعات الإسلامية. يرى مالك بن نبي أن مسؤولية المثقف تكمن في تحرير الناس من الاستعمار الثقافي، إذ أن الكثير من الناس يظن أنه متحضر ويدعو إلى الحرية، وهو ليس إلا أسيراً للاستعمار الثقافي الذي يجعل الإنسان يستورد الأفكار من الخارج حتى وإن لم تكن مناسبة له.

ويقول مالك بن نبي في كتاب (مشكلة الثقافة): “المثقف الأفريقي الذي كوّنته باريس ولندن، هو في أغلب الأحيان أوثق اتصالا بمنشأ ثقافته عنه بمنشأ حياته”. لا جدوى من المثقف الذي يصبح أسيرا لحضارة أخرى، فهو غريب عن مجتمعه وبيئته، وربما استورد حلولا لمشاكل ليست في مجتمعه أصلا. واجب المثقف أن يصنع الحضارة وينهض بالأمة.


 

هل نقتدي بالمثقف؟


يحتاج الأفراد في كل مجتمع إلى وجود قدوة يوجههم، ومن أسباب فساد المجتمعات: انعدام القدوات. ومن الأولى للمثقف بأن يكون هو القدوة الذي يقتدي به الناس لما يمتلكه من علم ومعرفة، ولأنه عرف أمراض المجتمع وسلبياته. والعلم الذي لا يورث صاحبه الأخلاق الطيبة لا قيمة له، بل يصبح حجة على صاحبه كما ورد عن الإمام الصادق:


“إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلًا، قال: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، وتلك الحجّة البالغة”.


وفي القرآن الكريم ترسيخ لفكرة القدوة الحسنة في سورة الأحزاب:

(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)، فكان محمد ﷺ قدوة حسنة للصحابة، يمشون على خطاه، وهو مرجعهم إن تشابهت عليهم الطرق.


الخاتمة


دور المثقف يكون بتوعية المجتمع والنهضة بالأمة وتصحيح المسار وصناعة الحضارة، ولا يكون بتقليد الحضارة الغالبة أو استيراد الأفكار. تحتاج كل أمة لتنهض إلى مثقفين يحملون على عاتقهم مسؤولية الإصلاح، فلا يتعالون على المجتمع أو ينعزلون عنه.. بل أن يكونوا خير قدوات للمجتمع، وروّاد لنهضة الأمة. فهل نملك مثل هؤلاء المثقفين اليوم؟


شارك

مقالات ذات صلة