يعد نتنياهو وكبار منظري الاحتلال العسكريين لديه من أمثال اللواء احتياط (جيورا إيلاند) بمرحلة جديدة من الحرب على غزة يتم فيها إعادة احتلال القطاع بعد تقطيع أوصاله شمالاً وجنوباً من ممر “نتساريم” إلى ممر “فيلادلفيا”٬ وإدارته عسكرياً بالحديد والنار والتجويع والتركيع٬ تمهيداً إلى تطويع القطاع للاستيطان الجديد الذي ينادي به شركاء نتنياهو في الائتلاف الحكومي من أمثال إيتمار بن غفير وسموترتش.
ويوصف الجنرال “جيورا إيلاند” بأنه أحد “الضباط المفكرين الوسطيين” لدى “إسرائيل”، ويتمتع بـ”مسيرة عسكرية مثيرة” حينما كان رئيساً لقسم العمليات والتخطيط في جيش الاحتلال ورئيساً لمجلس الأمن القومي٬ لكن كما نعلم جميعاً فلا يوجد يسار ووسط ويمين لدى المشروع الصهيوني حينما يتعلق الأمر بالفلسطينيين٬ حيث ينادي إيلاند “بنشر الأوبئة والأمراض في قطاع غزة” لأن ذلك “سيقرب إسرائيل من النصر وسيقلل الخسائر في صفوف الجيش”.
لا شك أن هذه الأفكار والمقترحات النازية تروق لنتنياهو وسموتريتش الذي أثنى على خطة إيلاند٬ حيث يحلم هؤلاء بجعل غزة منطقة مطهرة عرقياً مسحوقة بالكامل ومتاحة تدريجياً للاستيطان اليهودي لإعادة ضمها إلى “إسرائيل”٬ حيث يعتقد نتنياهو أنه لا شيء سيردعه عن ذلك بعد قتله ليل نهار سكان غزة على مدار عام كامل٬ فلا الصمت الدولي أو اعتراضات بايدن الخرف٬ أو شجب واستنكار العرب والمسلمين٬ سيعني مثقال ذرة لدى رئيس حكومة الإرهاب الإسرائيلي.
وفي خطة “اليوم التالي” حول غزة٬ يرى نتنياهو أن “النصر الكامل” على “حماس” لن يتحقق إلا بطرد سكان شمال غزة (على الأقل) وتوسيع أراضي “إسرائيل” وقطع أوصال غزة عن العالم من خلال عزل مصر (وإن كانت شريك إسرائيل في الحصار) عن القطاع بالكامل٬ وجعل كل المعابر في يد الاحتلال٬ والتلذذ في قتل الفلسطينيين بالسلاح الأمريكي أو التجويع أو نشر الأوبئة أو التهجير٬ وما كان إعلان نتنياهو في الثامن والعشرين من أغسطس/آب، الماضي عن تعيين العميد “إيلاد جورين” (حاكماً لغزة) ورئيساً لـ”الجهود الإنسانية والمدنية في غزة”٬ إلا بداية لهذه الخطط الإجرامية.
وهذا المنصب الذي استحدثه نتنياهو يوازي دور ما يعرف بـ”رئيس الإدارة المدنية ” في الضفة الغربية٬ وهي هيئة التابعة للجيش والاستخبارات الإسرائيلية وتحكم الضفة وتحفظ الاستيطان وتدير حياة السكان بالكامل٬ وتتحكم بكل من يدخل أو يخرج من البلاد٬ وتساعدها في ذلك السلطة الفلسطينية التي تحمل أعباء مرهقة عنها مثل “التنسيق الأمني”.
وبناء على هذه الخطوة٬ أصدر نتنياهو تعليماته لجيش الاحتلال الأسبوع الماضي بالاستعداد لتوزيع “المساعدات” في غزة، بدلاً من المنظمات الدولية الشريرة وعلى رأسها “الأونروا” (باعتبارها مشروعاً معادياً للصهيونية)٬ حيث يعتقد نتنياهو بأن من يوزع الغذاء والدواء سيملك زمام السلطة٬ وبالتالي سيتحكم بالأرض ومن يدخل إليها أو يخرج منها.
وفي مثل هذا الوضع، يأمل نتنياهو وشركاؤه أنه بعد شتاء ثان في الخيام لا نار فيه إلا نيران القنابل الأمريكية الخارقة للتحصينات٬ وحياة يومية غير آدمية بالكاد يجد الغزي فيها ما يسد رقمه٬ سيدرك 2 مليون فلسطيني محشورين بين مواصي رفح وخانيونس أنهم لا يستطيعون العودة إلى منازلهم المدمرة٬ وبالتالي عليهم مغادرة غزة تماماً وإلا سيكون مصيرهم الهلاك والموت.
ورغم اعتراض رئيس أركان جيش الاحتلال هرتزل هاليفي على خطط نتنياهو هذه، ليس لنازيتها٬ لكن لما تمثله من خطر قد يهدد حياة الجنود الإسرائيليين٬ ولما ستتسبب به من تكاليف باهظة لدولة الاحتلال٬ يظل نتنياهو مصراً على موقفه وخططه الإجرامية ويعمل على هندستها كل يوم٬ حيث لم ينجح الرأي العام الإسرائيلي في إرغامه على توقيع صفقة تعيد الأسرى الصهاينة من غزة٬ أو توقف نزيف الحرب التي لا تزال تشل “إسرائيل” منذ عام وتجعلها “الدولة” الأكثر نبذاً في العالم.
يريد نتنياهو تحويل غزة إلى ضفة غربية جديدة٬ ويعمل في الوقت نفسه على تحويل الضفة الغربية إلى غزة الجديدة٬ بنسخ هي الأكثر تشويهاً ودماراً وعبثاً٬ حيث يحتل غزة ويقطع أوصالها ويقتحم شوارعها متى شاء ويغتال ويجوّع ويقطع الماء والكهرباء٬ كما يفعل في الضفة. ويريد جعل الضفة كغزة٬ مدمرة مسحوقة لا حياة فيها٬ وبالمحصلة يمهد كل ذلك هنا وهناك إلى مشروع تطهير عرقي وتهجير وضم مساحات جديدة لدولة الاحتلال.
لكن نتنياهو المتغطرس الواهم لا يريد تعلم الدروس من التاريخ٬ أو الاستماع لأي نصائح من أحد تحاول ثنيه عما يخطط له أو يسير بقدميه نحوه٬ فغزة التي حكمتها “إسرائيل” بالحديد والنار والدمار لنحو 4 عقود أجبرت أستاذه في الإجرام “شارون” على الخروج منها مذموماً مدحوراً٬ بعدما تحولت المستوطنات فيها لجحيم لا يطاق٬ يذوق بها المستوطن والجندي الذي يحميه أصنافاً مختلفة من العذاب والموت.
وهنا لا أحاول أسطرة غزة الجريحة العنيدة على الإطلاق٬ فمن يقرأ تاريخها يعرف أن من يريد خوض حرب لا نهاية لها معها سيكون مصيره الهلاك الحتمي٬ ويدرك الأمريكيون ذلك جيداً٬ وهم يحذرون الإسرائيليين من الذهاب لمصير مجهول بلا أفق في غزة٬ تستنزف فيه مكانة “إسرائيل” العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولا تحقق فيها أي من أهدافها، فلا “حماس” دمرت، ولا عاد فيها “رهائن”٬ ولا مستوطنات ستبنى فيها كما يحلم سموتريتش وابن غفير.
وأما في الضفة التي يعدها الاحتلال محوراً أساسياً للصراع ويعمل على تحقيق مشاريع التصفية فيها والتدمير والتهجير وبناء دولة المستوطنين٬ ينسى نتنياهو أو يتناسى أن الدمار يجلب الدمار٬ وأن الدم لن يجرّ إلا الدم٬ وأن مشروع اجتثاث الفلسطيني من أرضه قد ينتهي باجتثاث “إسرائيل” المتغطرسة نفسها٬ من كل مكان يتوقعه ولا يتوقعه٬ وعليه فقط أن ينظر إلى الأيام العشرة الماضية ويعدّ قتلاه فيها من الجنود والمستوطنين: 15 قتيلاً وعشرات الجرحى في الضفة وحدود الأردن ومصر ولبنان، وما تخفي رمال غزة أعظم.
تقدم الأيام الماضية التي وصفها إعلام الاحتلال بـ”الأصعب على إسرائيل” ملمحاً عمّا هو قادم٬ حيث يقول نتنياهو (وهو يبيع أوهامه أمام خارطة أزال منها كل فلسطين التاريخية) إنه يدشن لمرحلة جديدة من الحرب والصراع يراها ستحقق في النهاية “النصر الكامل” للشعب اليهودي في الأرض المحتلة٬ لكن نراها نحن مرحلة جديدة من الحرب والصراع ستقضي على المشروع الصهيوني٬ حيث يضع هذا المتغطرس شعبه ومشروع أجداده برمته في مركبة يقودها بسرعة جنونية من أعلى سفح جبل نحو الهاوية٬ مركبة قد تراها قوية من الخارج لكنها متهالكة من الداخل وبلا مكابح٬ حيث لا يوجد احتمالات للوصول بسلام أو النجاة من الهلاك.