سياسة
مساء 30 يناير عام 1968 كان صاخبًا، الفيتناميون اعتادوا قضاء هذا الليلة كلٌ مع عائلته، مرتدين أبهى ما لديهم احتفالًا بعيد رأس السنة القمرية. أصوات الألعاب النارية تُسمع في الخلفية بوضوح، كجزء من تقاليد الاحتفال، ضوضاؤها العالية ترتفع فوق أصوات ضحكات المحتفلين في منازلهم. وربما توقفوا حينها عن الكلام، لمشاهدة السماء وهي تتحول لنهار على وقع هذه المفرقعات.
في مكان آخر، وللدقة، في مئات الأماكن الأخرى، تحت ستار الليل، خرج آلاف المقاتلين “الفيت كونغ” حاملين أسلحتهم الخفيفة والمتوسطة من كهوفهم وأنفاقهم، وانسلّوا في أعماق المدن، من بينها عاصمة الجنوب “سايغون”.
هاجموا القواعد العسكرية الأمريكية، ومراكز الشرطة، والمقرات الحكومية. كان هجومًا لم يتضح حينها حجمه. خرج الفيت كونج ومقاتلو فيتنام الشمالية للقتال لأول مرة بشكل علني وبأعداد ضخمة، قيل حينها إنها عملية انتحارية متكاملة الأركان. قاتل الفيت كونج قتالًا ضاريًا في أكثر من 120 بلدة في وقت واحد. احتاجت القوات الأمريكية ساعات لكي تفهم حجم الهجوم وضراوته، وفي نهاية اليوم، بات الجميع يعرف ما الذي يحدث.
أبناء الكهوف الذين عاشوا تحت الطين، تجرأوا وحاربوا في النهار لأول مرة، وخلَّفوا أضرارًا كبيرة في بنية القوات الأمريكية وحلفاؤها الذين فوجئوا بالهجوم الذي لم ينته في يوم واحد، بل طال لأسابيع وأشهر في بعض المدن، من بينها مدن كبرى.
العدو “فيت كونغ” يلفظ أنفاسه الأخيرة؟
قبل هجوم هذه الليلة الذي عُرف تاريخيًا باسم “هجوم التيت”، كان الأمريكيون يتحدثون بفخر أن القوات الأمريكية وحلفاؤها قد أتموا السيطرة على فيتنام الجنوبية، للدرجة التي دفعت بالرئيس الأمريكي جونسون للقول حينها “إن العدو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ونحن نسيطر على الوضع تمامًا”.
كان الجيش قد بدأ في تخفيض أعداد جنوده تزامنًا مع الحديث أن فيتنام الشمالية باتت مردوعة وتراجعت قدراتها بشكل كبير، وأن “هوتشي من” (زعيم فيتنام الشمالية) لم يعد ذاك الرجل المخيف، وأن الأوان قد حان لواشنطن أن تستريح؛ كان ذلك قبل أن تحمل هذه الليلة والأسابيع التي تلتها أخبارًا صعبة للأمريكيين.
على الجانب الآخر، لم تكن التقارير في الأيام التالية رحيمة بالفيتناميين المقاتلين. ومع مرور الوقت وكثافة القصف الجوي الأمريكي غير المسبوق، دُمرت حيوية الهجوم، عدا عن بعض النقاط التي تمسَّك بها “الفيت كونج” لأشهر متواصلة.
كانت الخسائر مهولة في صفوف المقاتلين الثائرين والمدنيين، قرابة 40 ألف قتيل من قوات “الفيت كونغ”، وهو ما يعادل نصف عدد القوات المشاركة في الهجوم، إضافة لعشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير البنى التحتية بشكل كامل في معظم المدن التي شهدت الاشتباكات، استعاد الأمريكيون السيطرة على فيتنام الجنوبية.
هجوم التيت بدأ بلحظة سعادة فيتنامية خيالية، إلا أن نهايته كانت كابوسًا ودمارًا للفيت كونغ… ولكن هل كان هذا كل شيء؟
فازوا بالجولة وخسروا الحرب
بنظرة قاصرة على هذه اللحظة التي سيطر فيها الأمريكيون مجددًا على فيتنام الجنوبية، وقتلوا عشرات الآلاف من مقاتلي الفيت كونغ، إضافة إلى عشرات آلاف الجرحى والمفقودين، وتدمير حاضنتهم الشعبية والقرى التي كانوا يحتمون بها، سيقول كل من عاصر ذلك المشهد دون نقاش إن الأمريكيين ربحوا هذه الحرب جملة وتفصيلًا. ولكن هل هذا صحيح؟
كان صد الهجوم الذي بدا وكأنه سيعطي الأمريكيين بقاءً أبديًا في فيتنام، للمفاجأة، بمثابة قرار الإعدام للتواجد الأمريكي في فيتنام. واستيقظ الأمريكيون الذين اعتقدوا طويلًا قبل هجوم التيت أن عدوهم في آخر أيامه كما كان يقول الرئيس جونسون، على واقع هذا الهجوم لا نتيجته.
الرئيس يكذب، وزير الدفاع يبالغ، والجيش يعاني، والفيت كونغ استطاعوا شن هجوم بعشرات آلاف المقاتلين، وجنودنا يُقتلون. كانت صفعة أفاق الأمريكيون عليها، إذ شعر القادة العسكريون بالإحباط نتيجة الهجوم غير المتوقع، وعدم إمكانية تحقيق انتصار حاسم رغم فارق القوة الساحق.
خرجت المظاهرات المليونية في الشارع تهتف ضد “الرئيس الكاذب” وتصرخ ضد الحرب والتجنيد “Hell No, we won’t go”. استجاب جونسون بعد طول عناد، وأعلن عن حزمة سياسات جديدة، إضافة إلى أنه لن يترشح مرة أخرى.
باتت الإدارة الأمريكية في مهب الريح، والرئيس الذي كان يُفاخر قبل هجوم التيت بأسابيع أن شبح الفيت كونغ قد اختفى، عاد هذا الشبح للقضاء عليه شخصيًا. انسحب الأمريكيون بعد ذلك بسنوات. فازوا بجولة التيت، لكنهم خسروا الحرب.
نصر تكتيكي وهزيمة استراتيجية
في حرب العصابات أو الحروب غير المتكافئة، “كي ينتصر الجيش النظامي، عليه أن يهزمك، ولكي تنتصر أنت، يكفي أن تجعله لا يهزمك”. أي أن خروج الجيش النظامي دون انتصار تام، يجعل من “الجبهة غير النظامية” الجهة المنتصرة، لأن استمرار قدرتها على إطلاق الرصاص يعني هزيمة الجيش النظامي بالتبعية.
عَرَّف المؤرخ والجنرال الروسي الشهير كارل كلاوزفيتز، في كتابه “حول الحرب”، الهزيمة بأنها: “فشل الجيش في تحقيق الهدف السياسي للحرب”. وبالتالي فإن كل حرب لا تؤدي إلى إنجاز سياسي للطرف الذي “انتصر” لا نستطيع اعتباره منتصرًا فيها، خاصةً عندما يكون هذا الطرف هو “الجيش النظامي”.
لذلك نستطيع القول إن هجوم التيت الشاعري، رغم أنه كان انتحاريًا، وتسبب في شل قدرة “الفيت كونغ”، وكاد أن يتسبب في إبادتهم، إلا أنه على المدى المتوسط والبعيد كان نصرًا فيتناميًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ورغم أن الأمريكيين استطاعوا استعادة السيطرة على المناطق التي خسروها، ودمروا فاعلية الفيت كونغ، إلا أنهم خسروا بنهاية اليوم، واضطروا للانسحاب من فيتنام محملين بأكبر خسارة لهم منذ تأسيس الولايات المتحدة. ولعل هذا هو المعنى الحرفي لتعبير نابليون بونابرت “النصر التكتيكي والهزيمة الاستراتيجية”.
كتب جيمس ألين، الفيلسوف البريطاني، ذات مرة ” غالباً ما يكون الحُكم على الأمور في خضمّ المعركة أمراً فوضويًا، ويمكننا بعد نهايتها فقط أن نرى الصورة كاملة”.
هذه الفوضوية التي يتحدث عنها ألين، هي التي أدت بالأمريكيين إلى الاحتفال باستعادة السيطرة على البلدات التي خسروها في هجوم التيت، ولكنهم بعد 60 عامًا من المعركة يعرفون الآن في قرارة أنفسهم أن التيت كان إعلانًا لأكبر هزيمة في تاريخهم.
هذه الفوضوية أيضاً هي التي يحكم بُناءً عليها مُحللٌ ما، وهو يهاجم بثقة قرار المعركة التي بدأت قبل عام، ولم تُخمد بعد. بينما يبدو أن من أعطى هذا القرار قرأ جيدًا هجوم التيت، استوعبه، وفهم الفارق بين خسارة الجولة ورِبْح المعركة. والمعركة لم يُكتب فصلها الأخير بعد.