سياسة
في كل اجتياح إسرائيلي في الضفة الغربية، يتوارد للذهن سؤال مشروع، أين تذهب قوات أمن السلطة الفلسطينية؟ وهو تساؤل يشابه تساؤل الكاتب الأمريكي “جيروم سالينجر” في رواية “الحارس في حقل الشوفان” عندما تعجب أين يختفي بط البحيرة عند قدوم الشتاء وتجمدها بالكامل، سالينجر كان يتحدث فلسفيًا، لكن السؤال عما يتعلق بقوات أمن السلطة سؤال حَرفي، يعلم إجابته غالبًا السائل والسامع، وهو من نوعية الأسئلة التي يجب أن تُطرح من باب التذكير بسواد الرحلة التي أوصلتنا إلى هذه النقطة. أين تذهب قوات أمن السلطة الفلسطينية؟ وما هي هذه القوات؟ وهل هي قوات حقيقية؟ وما الذي تقوم به؟
مقدمة سريعة:
هناك مشروعان للفلسطيني، البندقية وأوسلو، كلاهما تعتبره إسرائيل عدوًا، ولكن من باب ترتيب الأولويات وتقسيم المخاطر، تستخدم إسرائيل فلسطيني أوسلو كمندوب مسلح لها، يقوم بمهامها، جاسوسًا أحيانًا، ويعتقل وربما يقتل أحيانًا أخرى، وفلسطيني أوسلو لا يعبأ برأي الآخرين ويحاول الحفاظ على وضعه الاجتماعي، وبطاقة “ڤي آى بي” التي تمنحه عبورًا سريعًا من كوبري “الكرامة” الذي يفصل بين الضفة والأردن، وبعض الامتيازات والتسهيلات الأمنية والاقتصادية في وضع يشابه ما حكى عنه مالكوم إكس عن “عبيد المنزل” وكيفية استغلالهم من قِبل الإنسان الأبيض وإعطائهم ثوبًا نظيفًا ووجبة مقابل أن يعملوا لقمع رفاقهم وذويهم، وكان عبيد المنزل أشرس على رفاقهم من السيد الأبيض، خوفًا على انهيار سلطته وضياع “وجبتهم”، ورث الإسرائيلي حيلة الإنسان الأبيض، وورث فلسطيني أوسلو “خوف ضياع الوجبة” من عبيد المنزل.
من أين أتي البط؟ أو كيف تأسست قوات أمن السلطة الفلسطينية؟
قوات الأمن (الفلسطينية) يبلغ تعدادها وفقًا لتقديرات محايدة، قرابة ٥٠ ألف عنصر “في الضفة وحدها”، و٣٠ ألف عنصر في “غزة” يتقاضون أجرًا دون القيام بعمل منذ سيطرة حماس على غزة عام ٢٠٠٧، حديثنا هنا عن قوات أمن الضفة الذين ينتشرون في المناطق المعروفة بمناطق “أ”، وهم مسلحون تسليحًا متوسطًا ويمكن اعتباره جيدًا بالنظر إلى مهامهم التي تتلخص طبقا لاتفاقية أوسلو “بضبط الأمن” والقيام بدور الشرطة، لكن تسليح هذه القوات ونوعية تدريبها يفتح العين على أن وظيفتها لا علاقة لها بمصطلح “ضبط الأمن” بالشكل المتعارف عليه ضد اللصوص وقطاع الطرق مثلًا، لكن المقصود هنا بمصطلح “ضبط الأمن” هو ضبط الأمن بما يتناسب مع الجيش الإسرائيلي وتقليم أظافر المقاومين أولًا بأول أو كما يقول المصطلح الإسرائيلي “جز العشب” بشكل دائم. هذه القوات تنقسم إلى ٨ أقسام; الأمن الوطني، الاستخبارات العسكرية، المخابرات العامة، الحرس الرئاسي، الدفاع المدني، الشرطة المدنية، الجمارك، وأخيرا الجهاز الأشهر ذي الصيت السيء جهاز الأمن الوقائي. تسليحهم يعتمد على البنادق الهجومية، ومدرعات سوفيتية لا بأس بها، أغلبها من طراز بي تي أر ٧٠، وبي أر دي إم ٢، بالإضافة لعدد كبير من “الجيبات العسكرية” والسيارات المصفحة.
تتنافس الأجهزة الثمانية على المهام الموكلة لهم، تتقاطع أعمال معظمها دون ترسيم حدود لمهام كل منهم، ما يجعلهم يتنافسون دائمًا على إرضاء وتهيئة الأجواء لمن يعطيهم الأوامر المركزية، لدرجة أن إدوارد سعيد كان يقول عنهم “إن هذه الأجهزة تتجسس على بعضها البعض”، والشيء المذهل أن ميزانية هذه القوات تبلغ سنويًا قرابة من مليار دولار، المذهل أكثر أنه وطبقًا لحاجة السلطة الفلسطينية لتوزيع الثروة على أكبر قدر ممكن من عناصر هذه الأجهزة إرضاءً وشراءً لها، فإن نسبة الحاصلين على رتبة “عميد” تصل ل ٣١٢ شخصًا، بينما يمتلك الجيش الأمريكي العرمرم ما نسبته ٤١٠ عميد فقط، ولعل هذه الامتيازات والأرقام تجيب على تساؤل سالينجر الفلسفي عن اختفاء البط عندما يلوح الشتاء.
العلاقة بين الفيل والذبابة أو ما هي وظيفة قوات الأمن الفلسطينية؟
” نتيجة التعاون بين الفيل والذبابة يمكن توقعها”، المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي لم يجد أفضل من هذا التعبير للتعليق على اتفاقية أوسلو وما تضمنته من نقاط تتحدث عن التعاون بين الإسرائيليين والفلسطينيين، خصوصا في ملف الأمن والاستيطان، ولعله يذكرنا بما قيل لاحقًا إنه النجاح الأبرز لقوات أمن السلطة الفلسطينية، وهو خفض وتيرة الهجمات على الإسرائيليين من “٢٤٠٠ هجوم” في الضفة الغربية عام ١٩٩٢، وصولًا إلى ١٤٠ هجومًا فقط عام ١٩٩٩، أي انخفاض بلغ ما يقرب من ٩٥٪ نتيجة الدوريات المستمرة وأعمال الاعتقالات المنتظمة والعشوائية التي قامت بها أجهزة أمن السلطة في سنواتها الأولى بعد أوسلو، ولعل من أبرز أعمالها، كان إطلاق الشرطة الفلسطينية النار على مظاهرة لحركة حماس في غزة عام ١٩٩٤، ما أسفر عن مقتل ١٣ متظاهرًا، وحملة الاعتقالات التي كانت تشنها بشكل منتظم، أشهرها تلك الحملة الواسعة التي شنتها على منتسبي ومحبي حركة حماس في أعقاب عملياتهم الانتقامية ضد إسرائيل إثر استشهاد يحيى عياش، قبل أن تسوء الأوضاع بين الإسرائيليين وجماعة أوسلو مع الانتفاضة الثانية وبعد اقتحام شارون للمسجد الأقصى عام ٢٠٠٠، ما أسفر عن انهيار الترتيبات الأمنية، وإنهاء إسرائيل هذا التعاون بينها وبين “قوات الأمن الفلسطينية” خصوصًا أن أفرادًا من هذه القوات أطلقوا النار حينها على جنود إسرائيليين.
محمود عباس وإعادة إحياء الاتفاق.
“أنا أشيد بالتنسيق الأمني المستمر بين قوات السلطة وإسرائيل، هم منسجمون بشكل رائع، أنا منبهر ومتفاجئ من مدى انسجامهم، هم يتعاونون معًا بشكل لا يُصدق” دونالد ترمب قال هذه الكلمات في ٢٠١٧، بعد ١٢ عامًا من إعادة هيكلة القوات الأمنية التي أجراها محمود عباس بمجرد تسلمه للسلطة خلفًا لياسر عرفات، عباس كان قد اقتص من الجنود والضباط الفلسطينيين الذي أطلقوا النار على إسرائيليين، وأحال عددا كبيرا من قادة الأجهزة الأمنية إلى التقاعد، وعمل بمساعدة الأمريكيين وبإيعاز منهم على تدريب جديد للقوات الفلسطينية تحت إشراف الجنرال كيث دايتون، والذي ظهر اسمه كثيرًا مرتبطًا بهذه القوات “قوات دايتون” كسُبة لها، الجنرال الأمريكي قام بإعادة برمجتها وتفنيد خطتها ورسم عقيدتها، للدرجة التي دفعته للتفاخر في إحدى خطاباته عام ٢٠٠٩ قائلًا: “هذه القوات تعلمت حفظ القانون لا محاربة إسرائيل، أعددنا شبابًا جددًا بدلًا من جيل المناضلين القدامى الذين أسسوا الأجهزة الأمنية”.
هؤلاء الشباب الذين علمهم دايتون والذين كانوا جُددًا حينها، هم من يقومون الآن بتفكيك العبوات الناسفة التي تزرعها الفصائل في مخيمات الضفة الغربية وتمنعهم من مراكمة السلاح، هي من تقوم باعتقالات في نابلس وطولكرم وجنين “جزًا للعُشب”، كما أنهم من يقومون بإعادة المستوطنين التائهين الذين يدخلون مدن الضفة بالخطأ، وهم ذات الشباب الذين ينسحبون من الشوارع بسياراتهم المصفحة بمجرد رؤيتهم لمدرعات الجيش الإسرائيلي وهي تدخل المخيمات. ولعلنا الآن نمتلك إجابة، عندما يطرح أحدهم تساؤلًا، أين تذهب قوات السلطة الفلسطينية عندما تظهر مدرعات الجيش الإسرائيلي؟ وأين يذهب البط في الشتاء؟