تأملات
على مدار العقود الخمسة الأخيرة، ومنذ الانطلاقة الحقيقية للإعلام المرئي وقبلها بعقود أخرى قد انطلق الاعلام المسموع والمقروء وأعداء الأمة قد أخذوا بسنن الله في تحقيق النصر والتمكين في تلك الميادين، فلم تنفك مخططاتهم عن تحركاتهم البته، بل كانت خطواتهم في تحقيق التقدم بمعركة الفكر والوعي مدروسة وموزونة ومقاسة، فكأنما كنا نرى ما يقومون به عبارة عن حلقات تكمل بعضها البعض وبناء ينبني على ما أسفل منه من أساسات، فلم تكن حركة القنوات الفضائية وتطورها ونضجها وما تبعها من انتاج سينمائي ومنصات رقمية إلا انتصار قد بني على انتصار، وهنا أنا أتجرع مرارة الهزيمة من حيث إقراري بها، وأشرب من كأس الندامة على استسلامنا لتلك الهزيمة دون أن نحرك ساكناً استجابةً لسنن التدافع بجدية وموضوعية.
لو قدر لأحدنا أن يقف على هضبة مرتفعة ومن أسفل منه معركة مكشوفة له من حيث تحركات كلا الطرفين المتقاتلين، بل وإن مزودات الذخيرة والعدة والعتاد للجيشين يراها رأي العين أمامه، فلا شك أنه سيتوقع المنتصر في تلك المعركة بشكل دقيق نظراً للمعطيات الحقيقية التي يراها، واليوم لنقف سويةً على تلك الهضبة ولنكن مراقبين لسير المعركة في ميدان الإعلام التقليدي أو الرقمي، بل لتتسع أرض المعركة قليلاً حتى يدخل فيها ميدان البحث العلمي ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وحتى تكون قراءاتنا أكثر دقة بمن سينتصر لا يمكن أن نغفل ميدان استدامة الموارد التي يتم الصرف منها على بناء القيادات وصناعة الرموز والمؤثرين، وأظنك وأنت تقف بجانبي الآن قد علمت وأدركت أننا قد خسرنا المعركة وهزمنا فيها شر هزيمة، فالمعركة الحقيقية تدور رحاها في أرض لم نصنع نحن حدودها، ولا نعرف تضاريسها، ومفروضة علينا نوعية الأسلحة التي نحارب فيها ومدى تأثيرها وقوتها، بل وحتى خصمنا فيها هو الحكم بيننا والسيد علينا.
إن تاريخ أمتنا المجيدة بما فيه من منجزات وانتصارات وعلو أستاذية على بقية الحضارات ينبئنا اليوم أننا في تراجع كبير بالنظر لما كنا عليه في الماضي، وأن المجتمعات اليوم بما فيها من انحدار في القيم وتشوه في المبادئ قد تفوقوا علينا من خلال التوجيه الصحيح للموارد المالية والبشرية نحو أسس الانتصار في معركة الثقافة والوعي والمعرفة، فبعد أن كانت أوقافنا تبني الجامعات والمستشفيات وتصرف على الأربطة والزوايا أصبحت اليوم لا تتجاوز عموم الخيرات من مساجد وآبار واطعام ونحوها من مصارف الخير التقليدية، والعدو متيقظ ومتربص ولعقود طويلة قد وجه موارده وشحذ من همم أصحاب الثروات والأموال لديه نحو بناء مراكز البحث وأرقى الكليات وأحدث المستشفيات، بل والتف العدو من خلال جماعات الضغط وصناع القرار لديه حول من بيدهم تشكيل الصورة النمطية والعقل الجمعي عبر منصات التواصل الاجتماعي والفضاء الإعلامي المفتوح بشتى مجالاته، وأخذوا بالتوغل في تلك الكيانات ومكنوا من انتشار أفكارهم ومعتقداتهم وفرض ما يريدون من تعاليم وقوانين بأساليب عدة ومتنوعة وبطريقة استراتيجية ومنهجية.
نحن اليوم أحوج ما نحتاج إليه من أجل الانتصار هو إعادة تشكيل عقليتنا وقناعاتنا ومبادئنا في المنح والبذل والعطاء، فظهر أمتنا أصبح مكشوفاً أمام الهجمات النوعية على العقيدة الإسلامية والفطرة الإنسانية، فأصحاب المشاريع ذات الرسالة الهادفة والسامية والتي تعتبر من واجبات الوقت في الدفاع عن بيضة الإسلام وكيان النفس البشرية أصبحوا في معاناة شديدة وبحث مستمر عن الدعم المستدام، بل إن كثيراً منها قد توقف وهذا ما كان يرجوه ويتمناه المتربصون والأعداء، وإن تركنا الظهر وأتينا إلى الرأس والعقل سنجد أن المبادرات المعنية ببناء قدرات الإنسان وتعزيز إمكاناته العقلية نحو البحث والاختراع والابتكار أيضاً لا تجد لها من يتبناها ويحافظ على استقرارها ونموها وتطورها، فالإنسان في أمتنا هو عمادها وعنصر قوتها وموصل قيمها ومبادئها، فحري بنا أن نعيد برمجة الإنفاق لدينا حتى تستقيم صفوفنا في أرض المعركة.
أكاد أجزم أن من الواجبات اليوم والتي يجب أن توجه لها زكاة الكيانات التجارية والأفراد تأسيس منصة إعلامية رقمية بأعلى المعايير والمواصفات حتى لا تكن أمتنا أسيرة لمنصات صهيونية عنصرية تمارس علينا أشد وأبشع أنواع الإرهاب الفكري والثقافي، فالأمة تحتاج إلى من يؤمن بأن صوت مبادئها يجب أن يرتفع، وصور ابطالها يجب أن تنتشر، وروايات انتصاراتها يجب أن تخلد، وما يفعل بها أعداؤها من مجازر واعتداء وظلم يجب أن يكون واضحاً للعيان دون مواراة أو تحريف، وكل ذلك لا يكون إلا إذا تم توجيه المال نحو الأولويات التي تحقق لهذه الأمة النصر والتمكين.
نحن لا نريد من أصحاب المال أن يتركوا الفقراء والمساكين، ولا أن يتراجعوا عن أبواب الخير ومواسم البر والإحسان، بل نريد أن ينفر منهم طائفة مؤمنة بأن التقرب إلى الله بالبذل والعطاء له صور عدة، ومن تلك الصور بناء البنية التحتية للأمة حتى تتمكن وتظفر على سائر الأمم، فنحن نريد إلى من يوجه الأصول والاستثمارات نحو أوقاف مستدامة الريع تدر على تأسيس وتسيير مراكز البحث العلمي، ومشاريع تعزيز الإيمان ومحاربة التشكيك والالحاد وتشويه الفطرة السوية، وبناء واطلاق المنصات الإعلامية والرقمية ذات الاحترافية والمعيارية العالية، وبناء القادة والمؤثرين وصناع المحتوى المتمكنين، واطلاق عقول النابغين والمبدعين والموهوبين نحو الاختراع والابتكار، فإن الوقت لازال فيه متسع، وسنن الله إن أخذنا بها ستأتي معه بشريات النصر، والأيام يداولها ربنا بين من يأخذ بأسباب التمكين، فما سيزرع اليوم سيحصد في الغد، والعاقبة للمتقين يا عباد الله المحسنين.