تأملات

الاتزان النفسي: بين جلد الذات وتقديسها

أغسطس 22, 2024

الاتزان النفسي: بين جلد الذات وتقديسها


“إن ارتكاز الثقافة الحداثية هو الأنا”…عالم الاجتماع الأمريكي دانييل بيل.


صادف هذا الأسبوع ذكرى ميلادي، لكن ما قيمة هذه المناسبة؟ كان الناس في السابق يحتفلون بهذا اليوم من خلال كعكة صغيرة بجانب العائلة والأصدقاء. لكن الآن، لا يُرضي الإنسان إلّا جبال من الهدايا الفارهة. لم تعد النزهة العائلية تملأ عين الإنسان بقدر القاعات الفاخرة، وربما أصبحت هذه المناسبات عند بعضنا فرصة للتباهي بأفخم هدية أو أكبر حفل.


لكنّي لا أجد لهذه المناسبة أهمية، إلا في جانب واحد منها، وهو أنها فرصة لأن يراجع الإنسان حياته، ويرتب أولوياته، ويهذّب نفسه، في زمن متسارع لا تكاد أن تلتقط أنفاسك فيه. وفي عملية مراجعة الإنسان لنفسه تجد صنفين من الناس، فرّق الله بينهما، كما فرّق بين الليل والنهار.


تقدير الذات أم تقديسها؟


يلجأ الصنف الأول إلى تقديس نفسه وعدم الإقرار بعيوبها وعثراتها وزلاتها، فتجده يطالب الناس بأن يتقبلوه كما هو دون شروط. يظن هؤلاء أن عيوبهم جزء من هويتهم، وأن سعي الإنسان لتصحيح عيوبه هو من وهم الكمال لا أكثر. لا أتعجّب من انتشار هذا الفكر اليوم، فهو من تأثيرات الحداثة التي تضخمّ الذات ولا ترى أبعد منها، فكلٌ يردد: نفسي نفسي، ويظن نفسه سيداً لهذا الكون، مع أنه كائن ضئيل لا حول له ولا قوة، تهزمه الأمراض والذكريات والأحزان وغيرها الكثير. وربما هزمه الاستهلاك، وصار مادياً يسير مع الناس في ملبسهم وسلوكهم وحتى أحلامهم!


يكبر الإنسان اليوم في عصر (تأليه الإنسان)، فهو يظن أنه كائن يستحق أن يفعل ما يشاء، حتى وإن كانت أفعاله تدمّر الأخلاق الاجتماعية، أو تضر من حوله بشكل واضح. لا تتعجّب عندما تنصح أحداً بأن يزور الطبيب لمداواة علّته، فتجده ينفي أن ما أصابه مرض أصلاً، ويدعوك لتقبله كما هو. ولا تتعجّب كذلك أن النصيحة أصبحت تدخلاً في شؤون الآخرين، وليست رأي مُحب لا يرجو لك إلا الخير.


محاولات تأليه الإنسان، وتعظيم دوره، لها نتيجة حتمية واحدة وهي: تدمير صحة الإنسان النفسية. هذا ما دفع الكثير من الباحثين في حقل الصحة النفسية إلى أن يجيبوا على سؤال: “هل ازدادت الأمراض النفسية في عصرنا أم أننا أصبحنا أفضل في تشخيصها لا أكثر؟” بأن الأمراض النفسية ازدادت فعلاً.


شعارات “تقدير الذات” و “اعشق نفسك” و “محبة النفس” التي نستوردها من الحضارة الغربية فيها اختزال لتعقيد الإنسان، وهي شعارات تُفقد الواحد منّا اتزانه النفسي، وتنتج لنا شخصيات هشّة لا تنظر إلا إلى جانب واحد فقط من نفسية الإنسان.


جلد الذات دون رحمة

 

هذا الصنف الأول من الناس، أما الصنف الثاني فهو على النقيض؛ يجلد ذاته ويحتقر ضعفه، ولا يتقبل طبيعته التي خلقه الخالق سبحانه عليها. يقسو هؤلاء على أنفسهم، ويغفلون عن أن النفس البشرية لا تصل للكمال بطبيعتها، وأن تهذيب النفس لا يعني جلدها بل إصلاحها، ومن الأولى أن يُرفق الإنسان بنفسه ولا يكون ظالماً لها، بل يحاسبها بعدل وإنصاف.


وقد ابتلي كثير من الناس بأنهم لا يعرفون الرفق إلا مع الناس، أما مع أنفسهم فلا رحمة ولا تهاون! هذا الجلد للنفس لا يُثمر عن شيء غير الكراهية والاكتئاب والحزن. بينما الموقف المتزن هو محاسبة النفس بهدف معرفة نواقصها، وتحديد كيفية تحسينها، والسعي في ذلك طوال العمر. ومن الطبيعي أن يكون الإنسان ناقصاً في جانب أو أكثر، فالحياة فيها نواحي كثيرة منها مهنية أو اجتماعية أو نفسية أو غيره، وكل فرد منا سيعرف الجوانب التي عليه تحسينها لو أنه راقب نفسه دون تمجيد ولا تجريح.


ربما ساهمت طفرة الانترنت في أن إنسان اليوم يجهل نفسه، ولو أنك سألته عن فريقه المفضل مثلاً، لربما عرف تفاصيله أكثر من معرفته لنفسه. فهو لا يجلس ساعة صفاء يحدد فيها الأخطاء والمسار والأهداف، ويعيش حياة متسارعة مشتتة. لا عجب أن الفرد المعاصر أصبح يعاني من أزمة المعنى، فهو لا يفكر لماذا يعيش أصلاً، فكيف يجد الإجابة دون تفكير؟


وقد كتب شعراء العرب عن حالات نفسية مروا بها، ومنهم الشريف الرضي الذي وُلد في بغداد عام ٣٥٩ هجري، والذي أدرك أن الإنسان هو من يؤذي نفسه، وأن النفس عدوة له، وذلك في أبياته:


أروم انتصافي من رجال أباعد               ونفسي أعدى لي من الناس أجمعا


كيف ننظر إلى أنفسنا؟


وقد بيّن القرآن الكريم أهمية مجاهدة النفس في سورة الرعد: (إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم). إذ أن النفس هي الجزء المعنوي من الإنسان، وفيها يتصارع الإنسان مع رغباته.


ولا شك أن السعي لتهذيب النفس فيه مشقة، فكيف يقيّم الإنسان نفسه وهو ملتصقٌ بها؟ وكيف يصل للاتزان بين تقديس النفس وجلدها؟ لا شك أنها رحلة شاقة، لكنها رحلة تستحق أن يسلكها الإنسان طالما عاش، وهي سبيل الاتزان النفسي.


هذا ما دفع الكثير ممن جرّب مجاهدة النفس يقول: جاهدت نفسي حتى انقادت لي. وما أكثر الذين نعرفهم ممن أُصيب بعلّة متعبة، وتجاوزها بعد رحلة طويلة من مجاهدة النفس وإصلاحها في جوانبها الإيمانية والنفسية والاجتماعية والحياتية. في هذه الرحلة الطويلة من تهذيب النفس ومحاسبتها، يستذكر الإنسان نعم الخالق سبحانه عليه، ويتيقّن من اتزان الخطاب الإسلامي في مسألة النفس، فالحمد لله على فضله ونعمه وكرمه، عليه نتوكل وبه نستعين.


شارك

مقالات ذات صلة