سياسة
تشهد الساحة السياسية في جمهورية تشاد تنافساً بين القوى الأجنبية الساعية لترسيخ التحالفات السياسية والاقتصادية والأمنية الناشئة في القارة الأفريقية. تجسد هذه التجاذبات حقيقة تحول تشاد إلى محور للصراع الدولي، خصوصًا عقب الدعم الفرنسي الملحوظ للحكومة الانتقالية.
وقد برز الدعم الفرنسي للحكومة الانتقالية بعد وفاة الرئيس إدريس ديبي، وذلك بتجاهل القواعد الدستورية التي كانت تفضي بتولي رئيس البرلمان السلطة. هذا الدعم سهّل وصول ابن الرئيس الراحل، محمد ديبي، إلى الحكم، مستفيداً من تأييد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حضر الجنازة وأيّد انتقال السلطة بحجة الحفاظ على الأمن. تُستخدم هذه الأساليب، المعروفة بتوظيف الأمن كذريعة، في توطيد العلاقات غير الديمقراطية، في تجسيد لما تقوم به الدول الغربية عادة من دعم للتغيرات غير الدستورية أو الأنظمة الاستبدادية تحت شعار “الأمننة”، أي تسييس الأمن لتبرير سياساتها.
من الجانب الآخر، شهدت الفترة الانتقالية جهوداً مكثفة من قبل السلطات الروسية لاكتساب موطئ قدم في تشاد، محاولةً إبراز نفسها كبديل استراتيجي عن النفوذ الفرنسي من خلال تعزيز العلاقات والتأثير. لذا سعت روسيا لتعزيز علاقاتها بتشاد – الدولة الواقعة بين حلفائها من الكاميرون وأفريقيا الوسطى ودول الساحل إلى ليبيا- في ظل المنافسة الاستراتيجية مع فرنسا، بغرض تحقيق ممر يمتد من المحيط الأطلنطي من الكاميرون إلى البحر المتوسط في ليبيا عبر المشير خليفة حفتر. وعقب زيارة محمد ديبي لروسيا في يناير 2024، تمت تظاهرة الدعم الروسي عبر عملية عسكرية ضد متمردين تشاديين في الجنوب الليبي بقيادة صدام حفتر. وقد جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في يونيو 2024 لتؤكد أن العلاقة بين روسيا وتشاد قد تفيد محمد ديبي في إ\ضعاف خصومه من الحركات المسلحة إذا ما تحالف مع موسكو، مما يعكس الرغبة الروسية في تعزيز نفوذها بما يتوافق مع المصالح التشادية دون التسبب في توترات إقليمية.
على صعيد آخر، يبرز النزاع بين مستشاري الرئيس محمد ديبي، الذين ينقسمون في توجهاتهم بين دعم التحالف مع باريس أو موسكو، وبين الانخراط في الأزمة السودانية أو عكسه. ومن هنا يسعى هذا المقال إلى فك رموز الأدوار التي يلعبها هؤلاء المستشارون، الذين يوجهون، بشكل غير مباشر، دفة السياسات في دولة تعتبر الرئيس الشاب فيها ما زال يفتقر إلى الخبرة الكافية لإدارة دفة الحكم بمفرده. وفي خضم هذه التوترات الدولية، يحاول مستشارو الرئيس محمد ديبي التأثير على قراراته، متجادلين حول الحليف الأنسب لتشاد في هذه المرحلة الحرجة.
ففي بدايات عهد محمد ديبي، الذي يقود تشاد بعد انتخابه في مايو الماضي، انخرط في مواجهة مليئة بالمخاطر تتشابك فيها التحديات الأمنية والدبلوماسية. يحيط به جنرالات ووزراء وسياسيون يتنافسون لتقديم النصائح والتوجيهات، حيث يتوق الرئيس الشاب للاستماع إلى دائرة مستشاريه الموثوق بهم. وتتبلور الأسئلة حول من هم هؤلاء المستشارون الذين يهمسون في أذنه ويوجهون سياسته، في وقت يبحث فيه عن مسارات لتوطيد حكمه في سياق دولي متقلب.
المحور الرئاسي في تشاد: استراتيجيات ونفوذ إدريس يوسف بوي
يبرز داخل القصر الرئاسي التشادي، إدريس يوسف بوي كالشخصية الثانية الأكثر تأثيراً بعد الرئيس، حيث يشغل منصب رئيس الأركان لمحمد ديبي. رغم الاتهامات العلنية التي وجهها الرئيس له بالاختلاس في سيرته الذاتية التي صدرت في أبريل/نيسان، إلا أن بوي استمر في تأثيره القوي بعد أن قام برد الأموال وحصل على العفو من الرئيس. يتعامل الآن مع القضايا السياسية والاقتصادية، ومديراً لشبكة أعمال تمتد حتى دوالا في الكاميرون. يُشاع عنه ميوله نحو روسيا، ويُعرف عنه تفضيله الابتعاد عن باريس وهو الذي يهمس في أذن ديبي الابن بضرورة تغيير التوجه والابتعاد عن فرنسا.
ثم يأتي أحمد علابو، الأمين العام لرئاسة الجمهورية، كان معارضًا سابقًا لإدريس ديبي إتنو والد الرئيس الحالي، قبل أن يصبح وزيرًا للعدل في الحكومة الانتقالية لعام 2021. تلقى علابو تعليمه في روسيا، وهو الآخر يظهر كأحد المستشارين الرئيسيين للرئيس بميول للتوجه نحو روسيا إلى جانب محمد إسماعيل شايبو، الرئيس السابق لوكالة الأمن الوطني التشادية والآن مستشارًا للرئاسة.
أما محمد إسماعيل شايبو، الذي كان وزيرًا سابقًا للإدارة الإقليمية وابن عم حسن بورجو، هو الآخر يعتبر ذو قيمة لا تقدر بثمن في الأمور المتعلقة بالسودان. كما يُنظر إلى بشارة عيسى جاد الله، وزير الدفاع السابق وابن عم محمد حمدان دقلو “حميدتي”، كشخصية رئيسية في العلاقات مع السودان، ويزعم إن الإمارات العربية المتحدة تمر عبرهما للتأثير على الرئيس الشاب لدعم ميليشيا الدعم السريع التي تدعمه الإمارات في حربها ضد حكومة عبد الفتاح البرهان في الأزمة السودانية.
في الطرف الآخر، يُعد أحمد كوجري، الذي أعيد إلى دائرة النفوذ بعد إقالته من وكالة الطاقة الذرية، من الشخصيات الرئيسية في الرئاسة بفضل علاقاته الوثيقة بالاستخبارات الفرنسية. وقد عمل مؤخرًا على تحسين العلاقات بين باريس ونجامينا خلال زيارته الأخيرة لفرنسا، وهو الذي تتمسك به باريس للإبقاء على نفوذه في الدولة الساحلية الوحيدة التي لا تزال لفرنسا وجود عسكري فيها بعدما طُردتْ من مالي، بوركينا فاسو ومؤخرًا في جمهورية النيجر.
دعم الرئاسة التشادية من خلال القيادات العسكرية
في سياق تحصين سلطته وتعزيز دعم الجيش للتخفيف من مخاطر التمرد الداخلي، خاصةً في أوساط قبيلة الزغاوة -التي ينتمي لها الرئيس محمد ديبي- والتي شهدت توترات عقب مقتل يحيى ديلو جيرو مطلع عام 2024، يعتمد محمد ديبي بشكل رئيسي على ثلاثة من الجنرالات، وهم: أبكر عبد الكريم داود، رئيس أركان الجيش، المعروف بلقب “كيركينو”، وهو من أبرز رفاق السلاح السابقين لإدريس ديبي إتنو والد محمد ديبي.
وبالإضافة إلى أبكر، شهدت الفترة الأخيرة تشجيع الرئيس لصعود شخصيتين مقربتين: إسماعيل سليمان لوني، الذي عُين رئيسًا لوكالة الأمن الوطني (ANSE) في فبراير 2024. يمتلك لوني، الذي كان عضوًا سابقًا في جهاز أمن المؤسسات الحكومية، أصولاً في السودان وينتمي إلى عائلة زغاوة من إنيدي.
والشخصية الأخرى هي: عثمان آدم ديكي، الذي تم ترقيته مؤخرًا إلى رتبة عميد، هو ابن إحدى شقيقات الرئيس وكان عضوًا في المديرية العامة للأمن والدفاع. يتولى حاليًا قيادة قوة التدخل السريع، وهي وحدة حديثة الإنشاء تُعد بمثابة قوات حرس جديدة لمحمد إدريس ديبي إتنو لتوازن القوة المتزايدة للمديرية العامة للأمن والدفاع.
القيادات الاتصالية في الرئاسة التشادية
في القصر الرئاسي، يتصدر حسن عبد الكريم بويبري، الذي عمل سابقًا في منظمة المؤتمر الإسلامي وكان من المعارضين للراحل إدريس ديبي إتنو، قائمة المسؤولين عن الاتصالات. بويبري، الذي كان يتحدث باسم الجماعة السياسية العسكرية “سكود”، يشغل حاليًا منصب مدير الاتصالات بالرئاسة وينسق الظهور الإعلامي للرئيس. كما أسهم بشكل فعال في إصدار السيرة الذاتية لمحمد إدريس ديبي إتنو، التي تروي مسيرته من البداوة إلى الرئاسة.
بالإضافة إلى بويبري، تُقدّم حليمة أسدايا علي إبراهيم، المديرة السابقة لمحطة الإذاعة الوطنية التشادية، دعمًا كبيرًا في هذا المجال. أما دهبية عمر سوني، السيدة الأولى، فقد عملت كضابط اتصالات تحت إدارة إدريس ديبي إتنو قبل أن تصبح مستشارة اتصالات لزوجها خلال الفترة الانتقالية. وهي ابنة عمر سوني، الجنرال والقائد السابق للحرس الوطني والبدوي التشادي ورئيس أركان الجيش السابق.
عطفًا على من سبقوا، يتمتع طاهر حامد نجوين، وزير المالية، بثقة كبيرة من الرئيس، مما يعكس دوره الرئيسي في الأمور المالية والاقتصادية للبلاد. تولى نجوين، الذي تلقى تعليمه في الكاميرون وفي بنك الدول الأفريقية المركزي (BEAC)، مناصب قيادية عديدة قبل تعيينه في الحكومة عام 2019 من قبل إدريس ديبي إتنو، ويُعرف بتواصله المستمر مع رئيس الدولة.
في ذات السياق، يبرز محمد شرف الدين مرغي، وزير الأمن العام، كشخصية مؤثرة في قطاع الأمن، بينما تعتبر أمينة بريسيل لونجو، وزيرة شؤون المرأة، من الشخصيات القريبة من دوائر القرار. وأخيرًا، يتولى عبد الرحمن كلام الله، الذي كان يشغل سابقًا منصب متحدث باسم الحكومة، دورًا محوريًا في الاتصالات الحكومية بعد أن خلف محمد صالح النظيف في وزارة الخارجية.
مستشارو الظل في الحياة السياسية التشادية
في ظل الظروف السياسية المعقدة في تشاد، يُحيط محمد إدريس ديبي إتنو، نفسه بشبكة ظل من المستشارين البارزين الذين يلعبون دورًا حاسمًا في الشؤون السياسية والتشريعية. ومن بينهم يتمتع محمد زين بادا، الأمين العام لحزب الشعب التشادي، بتأثير كبير وقد أسهم بشكل فعال في حملات الدعم السياسي التي أكسبت محمد ديبي دعمًا كبيرًا في الانتخابات.
وبينما يغيب هارون كابادي، رئيس المجلس الوطني الانتقالي، عن المشهد السياسي بسبب مرضه، يواصل بادا تقديم المشورة الاستراتيجية، مدعومًا بتعاون محكم مع شخصيات رئيسية في النظام التشادي، مثل جان برنار باداري من المجلس الدستوري، وسمير آدم النور من المحكمة العليا، وأحمد برتشيريت من اللجنة الوطنية للانتخابات. في هذا السياق، يبرز أيضًا صالح كبزابو، وسيط الجمهورية، الذي كان له دور مؤثر في الحياة السياسية من خلال علاقاته الوثيقة مع الرئيس ودعمه الفعّال خلال الانتخابات الرئاسية، مما يعزز مكانته استعدادًا للانتخابات التشريعية القادمة.
الخاتمة: إن هذا التطرق، إلى تجمع المستشارين والجنرالات والسياسيين المؤثرين يُتيح فرصة فحص الأطر السياسية داخليًا وخارجيًا. ولعل في هذا كشف للغطاء أمام القارئ العربي والأفريقي عن كيفية تشكيل التحالفات الجديدة في منطقة الساحل، حيث يلعب مستشارون في الظل دورًا بارزًا في ميزان القوى الحكومية، خصوصًا في الحكومات العسكرية، فهم من يوجهون الأمور نحو التحالفات الواجب تَبنّيْها. والاستماع لهذا الفصيل دون ذاك يعطي الأفضلية لروسيا أو فرنسا في نفوذهما مثلاً، مما ينفي الفكرة السائدة بأن الجنرالات -بعد الانقلابات- هم فقط من يحددون المسار السياسي للدولة نحو هذه الدولة أو تلك.
فالواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو، فمثلًا تأثير استشارات إدريس يوسف بوي يظهر جليًا في التقارب الأخير مع روسيا، وهذا يتعارض مع نصائح أحمد كوجري المقرب من المخابرات الفرنسية الذي يعمل على تعزيز العلاقات مع فرنسا دون قطعها. كذلك يلعب محمد شايبو وبشارة جاد الله، ابن عم حميدتي، دورًا محوريًا في توسيع النفوذ الإماراتي عبر تشاد للدعم السريع بالسودان.
تُظهر هذه التفاعلات كيف تؤثر الشخصيات البارزة في الظل على مسار السياسة في تشاد، وبالتالي، من الضروري للدول التي تسعى لمكانة بجانب الحكومة التشادية الجديدة، مثل قطر التي تقوم بدور الوسيط لحل الأزمة التشادية، أو دول الساحل التي تحاول دفع تشاد نحو تحالف الساحل الجديد، أو دول الخليج الأخرى أن تفهم جيدًا من هم الأشخاص الذين يهمسون في أذن الرئيس الشاب والعمل على التأثير فيهم لصياغة السياسات الداخلية والخارجية لتشاد. إنها السياسة، وهو ميدان تنافسي، ويتطلب فهماً دقيقاً للشخصيات الرئيسية المحركة للأحداث، القواعد الحاكمة للعبة، والفاعلين المؤثرين الذين يعززون أو يعرقلون العمليات. هذه المعرفة هي التي تحدد في نهاية المطاف الرابحين والخاسرين في الساحة السياسية.