أدب
ألّفَ ابن قتيبة كتابا لطيفا، جعله تفسيرا لمفردات القمار في الجاهلية وما قيل في القمار من أشعار، وما ورد عنه من أخبار، وأسمى كتابه ذلك: “المَيْسِر والقداح”. ونحن نعرض في هذا المقال بعضَ ذلك المعجم الذي اندثر ولم يعد الناس يستعملونه. الميسِر هو القمار أو اللَّعِبُ بالقِداح (التي هي سهام يُعلب بها القمار).
كان لدى أهل الجاهلية قِدَاح يلعبون بها الميسر، هي بمثابة ورَق القمار عندنا اليوم، فكانوا يتقامرون على أجزاء ناقةٍ ينحرونها إذا اشتد البرد. والأصل في الميسر أنه اسم هذه الناقة التي ينحرون (تُسمّى أيضا الجَزور)، ينحرها الأغنياء (الذين هم الأيسار جمع ياسرٍ) ويتقامرون عليها، ثم يوزعون لحمها على الفقراء، فهذا هو نفع الميسر الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى “يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافعُ للناس”.
وسميت الناقة التي تُنحر ويتقامرون على أجزائها مَيْسرا، لأنها تقسم إلى عشرة أجزاء يتم عليها القمار، وكل شيء جزّأتَه فقد “يسَرته”، والمقامر الذي يتولى تقسيم أجزاء الناقة المنحورة هو “الياسر”، وأصحابه المقامرون يقال لهم ياسرون وأيسار.
نأتي إلى نفع الميْسِر الذي أشار إليه القرآن قبل تحريم الميسر، والنفع في الميسر هو أن العرب كانوا إذا اشتد البرد في الشتاء ولم يجد الفقير ما يسد به رمق عياله، اجتمع الأيسار (الذين هم الأغنياء) وتقامروا على أجزاء الجزور (التي هي الناقة المتخذة للنحر)، ثم يجعلون لحمها للفقراء منهم وذوي الحاجة. وهذا كان غاية المدح عند العرب، كما قال الأعشى:
المطعمو الضيفَ إذا ما شتَوا – والجاعلو القوت على الياسرِ
أي يجعلون أقوات الفقراء منهم على الياسرين بالقداح وهم أهل الثروة والمال. ويقول آخر:
هيْنونَ لينون أيسار ذوو كرم – سواس مكرمة أبناء أيسارِ
وكانت العرب تسب الغني الذي يأبي أن يشارك في الميسر، وتعدّه بخيلا فتمسيه “بَرَماً” وجمعه أبرام، قال متمم بن نويرة يرثي أخاه:
ولا بَرَمًا تُهدي النساء لعِرْسه – إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
يقول إن أخاه لم يكن بالبرم الذي يتخلف عن الميسر لبخله، فتشفق النساء على زوجته فيهدينها بعض اللحم الذي أبى زوجها أن يقامر عليه، وإذا كان الرجل برما أي لا يدخل معهم في لعب الميسر، لم يدخل اللحمُ بيتَه، إلا بأن تهديه نساء الحي لامرأته فهذا هو معنى البيت.
ثم صارت العرب بعد ذلك تطلق لفظ البرَم على كل بخيل، فلم يعد الاسم مختصا ببخلاء الميسر. ومن ذلك قول عمرو بن معديكرب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أأبرام بنو المُغِيرة يا أمير المؤمنين”؟ فقال عمر وكيف ذلك، قال: “نزلت بهم فما قروني غير ثور وقوس وكعب”، والثور هو القطعة من اللبن الحامض المجمد، والقوس هي القطعة من التمر، والكعب هو القطعة من السَّمْن”، أراد أن يقول إنه نزل بهم فلم يذبحوا له، فوصفهم بالأبرام، أي البخلاء، فكأنه يشببهم بالأبرام الذي يرفضون دخول الميسر لبخلهم.
أما القِداح التي كانوا يلعبون بها الميسر، فتسمى قِداحا وأزلاما وسهاما على السواء، وهي جمع قِدح، وتُقطع من الشجر، وتسميتُها تختلف باختلاف مرحلة علاجها بعد القطع، فحينما يُقْطَع العود من الشجرة يسمى قِطْعاً، ثم يُبْرَى فيُسَمَّى بَرِيّاً، ثم يقوَّمُ ويهذب فيسمى قِدحاً، فهو قدح الميسرِ.
قداح الميسر عشرة: سبعة منها هي ذوات الحظوظ أي إذا خرج منها واحد كان لصاحبه على الأقل نصيب واحد، وثلاثة منها أغفال: أي لا حظوظ فيها، فإذا خرج لك واحد منها لم يكن لك نصيب. فالسبعة ذوات الحظوظ هي: الفَذُّ ولصحابه نصيب واحد، والتوأم وله نصيبان والرقيب وله ثلاثة أنصبة والحِلس وله أربعة أنصبة، والنافس له خمسة أنصبة والمُسْبِلُ له ستة أنصبة والمُعلى الأخير من هذه السبعة له سبعة أنصبة. أما القداح الثلاثة التي لا حظوظ لها، أي ليس لمن خرجت له نصيب: هي السفيح والمنيح والوغد. فالقداح السبعة الأخرى التي لها حظوظ، يميزون بينها بعلامات يضعونها عليها يسمُّون الواحدة منها حَزًّا أي شرطة، فعلى القدح الأول الذي هو الفذُّ شرطة واحدة ومعناه أن لصاحبه نصيبا واحدا، وعلى القدح الثاني التوأم شرطتان، وهكذا إلى أن نصل إلى القدح السابع المعلى الذي تكون عليه سبع شرطات.
الياسرون السبعة، إذا أرادوا أن يتقامروا على ناقة، يشترونها من رجل ولا يدفعون ثمنها إلا بعد انتهاء عملية القمار، التي ستحدد من يجب عليه دفع ثمن الناقة. وقبل أن يباشروا في ضرب القداح (الذي هو لعب القمار)، ينحرون الناقة ويقسمونها إلى عشرة أجزاء ويتقامرون عليها، فالخاسر في عملية القمار هو الذي سيدفع ثمن الناقة والرابح هو الذي سيوزع لحم الناقة على الفقراء. فمثلا إذا خرج الرقيب الذي هو القدح الذي له ثلاثة أنصبة، والمعلى الذي هو القدح ذو السبعة أنصبة، ينتهي اللعب لأن أجزاء الناقة العشرة قد انتهت بخروج هذين السهمين اللذين عدد الأنصبة فيهما عشرة، بالتساوي مع أجزاء الناقة العشرة، فيربح من خرج له السهمان وتخسر البقية، ويؤيد هذا قول امرئ القيس في معلقته:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي – بسهميك في أعشار قلب مقتلِ
جعل قلبه أعشارا أي عشرة أجزاء كأعشار الناقة التي يقع عليها القمار، وجعل عيني محبوبته سهمين من القِداح ضربتهما محبوبته ففازت بأجزاء قلبه العشرة.
بقي أن نقول إنه كانت توجد لدى أهل الجاهلية قداح أخرى يتخذها الرجل لنفسه، فيضرب بها إذا أراد الإقدام على أمر عظيم، فإذا خرج قِدح من تلك القداح امتثل لما فيه، وهذه القداح هي الآمر والناهي والمتربص، فإذا خرج الآمر فعلتَ الأمر، وإذا خرج الناهي كففتَ عنه، وإذا خرج المتربص أعدت ضرب القداح مرة أخرى. وقد حرم هذه الممارسات كلها الشارع كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ (جمع نصب وهو الصنم) وَالْأَزْلَامُ (التي هي القداح) رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.
عشتم طويلا.