تأملات

ما أشبهَ غزّة بيوسف عليه السلام

أغسطس 11, 2024

ما أشبهَ غزّة بيوسف عليه السلام

غزّة لم يُلقها إخوتها في الجبّ فحسب، إنما وضعوها في طريقٍ لا تمرُّ به سيّارة فيسوقها الظمأ إلى الجبّ بحثا عن ماء، فلا أخذها العابرون ولا اشتروها بثمنٍ بخس، ظلّت كيوسف وحيدةً في بئرٍ سحيقة لكنها تعلم أنّ يد جبريل تحملها بلطف بين كل هذه الذئاب المسعورة حولها.

 

وهي تتناهش جسدها وحيدة، ولكنّ عينها لا تفتأ تناجي السماء، وبينما لم يشترها أحد بثمن بخس، اشتراها الله عزّ وجلّ حين قال: “إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة”، اشترى منها الله، وقبلت البيع، غزّة الحبيبة المحبوبة عند ربّها.

 

وما أشبهَ قميص غزّة بقميص يوسف، إلا أنّ قميصها لم يغرق بدم كاذب، لقد غرق بدماء أهلها: رجالا ونساءً وأطفالا، لقد كان دماً أحمرَ قانياً، عَبَرَ هذا الدم كل المنصّات الدولية، ووقف قميص غزّة وحيداً في مجلس الأمن، كان يقطر دما طازجاً ساخناً، حتى يظن الناظر إليه أنه مغموس في بركة دم كبيرة، لكنّ أحداً لا يريد أن يراه، إنّهم لا يرون سوى كذبة الدم تلك بعيون إخوة يوسف.

 

لقد وقف قميص غزّة وحيداً تحت ركام المنازل المقصوفة، وفوق الجثث المحروقة، وفي سيارات الإسعاف المسحوقة، وبين أجساد الذين فرمتهم جنازير الدبابات، وفوق الأقدام المبتورة، وبين العيون المفقوءة، وعند القلوب المكلومة، فكيف يكون قميصاً عادياً، إنّه قميصٌ ترتفعُ به سماوات، وتقال به عثرات، وتُغفر به سيئات، وتُرفعُ به مقامات، فما أعظمك عند ربّنا يا قميصنا المغمّس بدم الشهداء في أرض الأنبياء.

 

وإذا كان ليوسف يعقوبٌ واحد، فلغزّةَ مليونُ يعقوب، لقد بكى الأصل فرعه، والفرع أصله، والكل بعضه، والبعض كلّه، فإذا به المرء هنا يبكي نفسه ما بينه وبينه، في كلّ بيتٍ يعقوب، بل في كلّ خيمة وزقاق ونَفَس، لكنّ يعقوبنا ليس كيعقوب يوسف، فقد ابيضّت عيناه ليس من الحزن فحسب، بل من هول خذلان إخوته له وهوانه عليهم.

 

منذ 17 عاماً وغزّة في سجنٍ كبير، لكنّها كانت دائماً تنتصرُ على سجنها ليس بتأويل الأحاديث، بل بوقوفها في عين الشهود، فترى أنّ ذلك اختبار المرسلين، وأنّه لا تمكين دون ابتلاء، ولا منحة دون محنة، ولا عطاء دون منع، ولا يسر دون عسر، ولا ترقية دون تصفية.

 

كان يوسف عزيز مصر، وكانت غزّة عزيزة الأمّة الإسلامية، بل والعالم بأسره، وربّما العوالم كلّها ما ظهر منها وما بطن. ولغزّة في قميص يوسف الغارق في دمه بشارة قديمة، يُصدّقها القلب وإن لم تصدقها الحقيقة المنطقية، أنّ ذلك القميص الذي أوقد الحزن في قلب سيدنا يعقوب على ابنه، عاد بعطره يمسح على وجهه ويردّ له بصره، ويطفئ له شوقه.

 

قف يا قميص غزّة، لا تبك وحيداً بين يدي إخوةٍ خذلوك، قف أيّها البطل، لأنّك بشارة الله لنا وإن تأخرت الريح في حمل مسكك على عيوننا، ولكنّ وعد الله نافذ، فمنذ كتب الله الدم والفقد على ذلك القميص كتب عليه أن يكون بريد البشرى والسكينة، فمن كتب الوجع كتب الشفاء، وكلّه بقدر محكم، والحمد لله الذي أعزّ يوسف به، وقد أعزّ غزّة من بعده به، فلا ناصر إلاه، ولا معزّ سواه، صدق وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.

 

 

 

شارك