لذلك نواجه في وقتنا الراهن سيلا عارما من الأفكار والمعلومات والقصص والأقوال المنسوبة إلى هذا الشخص أو تلك الجهة دون دليل يسندها، ناهيك عن اختلاق القول المعاصر ونسبته إلى عالم مضى عليه قرون، بل وتنتشر المفاهيم والأفكار الغريبة والشاذة لتجد صداها السريع لدى النفوس المعتلة المتأزمة، والنتاج تعسر في الفهم وتشوه في بناء الشخصيات!.
ومن أجل تمرير هذا السلوك برزت ظاهرة استهداف المؤسسات الدينية الأصيلة التي كانت وعلى مدى سنوات طويلة حاضنة متميزة للمعرفة الدينية والفكر الأصيل، ولا شك في أن جزءاً من ذلك كان متعمداً ومقصوداً ومدروساً، ومما زاد من أثر ذلك السلبي هو فسح المجال للصوت المناكف والمتشدد والسطحي في فهم الدين وحقيقة رسالته وسط غلبة حالة الكسل المعرفي التي أصابت الأمة في الصميم مما منح البيئة الملائمة لنمو التيارات المتطرفة والجماعات الإرهابية التي جددت فكر المغالين كأشد ما يكون عليه توحشاً وقسوة، وأوجد على المستويات الفردية أناسا يدّعون الالتزام الديني وهم أبعد ما يكونون عنه لقصور فهمهم واضطراب الأولويات لديهم.
والملفت أن مراجعة بسيطة للتراث الإسلامي الشرعي يوقفنا على حقيقة بارزة وهي أن كل ما يثار من مخالفات له أصل، وأن المذاهب كلها على الإطلاق لم تتبنَّ رأياً فقهياً دون دليل، وهذه المذاهب التي واجهت حملات تقويض ظالمة هي تجليات الفهم العلمي والرصين للنص الديني الثابت في حجيته والمتفق على صحته والذي يمثل ركناً أساسياً يتكامل مع الفهم المتعدد والمتنوع والمعبر عن مرونة الشريعة الإسلامية السمحاء المواكبة لتحديثات الزمان والمراعية لخصوصيات المكان.
ولذلك كانت الحاجة اليوم لإيقاف هذه الفوضى التي تضرب أطنابها الساحة الدينية على نحو ملفت، وذلك لن يكون إلا بإعادة ترتيب الأولويات لمصادر التلقي والتشريع، والإحاطة بالعلوم المساندة مثل علوم القرآن وأسباب النزول، ووضع السنّة النبوية الشارحة والمفصلة في موقعها الأصيل، واستعادة التواصل مع علماء الأمة الأفذاذ، وإنهاء القطيعة البائسة مع المذاهب الإسلامية الأصيلة، وتقنين عملية إبداء الحكم الشرعي والفتوى، وتحقيق التكامل العلمي مع السلوكي بإبراز عظمة تاريخ التصوف الذي أنتج قادة وعلماء نجحوا بتحقيق التوازن بين حاجات الجسد والروح، وتبني المؤسسات الدينية وفي مقدمتها الأزهر الشريف ونظرائه في الدول المختلفة لمشروع التصحيح اللازم بإعلاء شأن العلوم الإسلامية وتجلي رسالة الدين القيم القائمة على المرونة والتسامح والوسطية التي أظهرها سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم كأشد ما تكون نصاعة وضياءً.
إنها حملة واضحة لتجريد الإسلام من مضمونه، أولها إشاعة الجهل وآخرها فسح المجال للصوت النشاز تحت شتى العناوين بين حركات تطرف سلوكية أو انحراف بمسمى التكوين، ولا بد هنا من التشديد على أن خطوة العمل الأولى تكمن في التقاء المؤسسات الدينية على كلمة سواء، ومجابهة حملات التجهيل والتشكيك في آن واحد.. والنهوض بمهمة إعادة ضبط المصنع لاستعادة جوهر الفهم وإشراقة السلوك.