ثمّة ضربات تُفقد المرء توازنه الفكريّ، وتُفقده -كما الهزيمة- ثقته في منطلقاته التي أوصلته لهُنا، وتزعزع قناعاته الراسخة التي صدّق فيها بعد اجتهادٍ ودفع أثمان التمسّك بها على كلّ حال، ولعلّ أخطر هذه الأثمان هوذا التشكيك الذي تزرعه هكذا ضربة في نفسه حول انحيازاته وقناعاته وتموضعه الذي لم تكن القوّة أو الانتصار شرطًا لها حين وقعت.
أحبُّ أن أنتصر في معاركي، تنتصر الثورة وتنتصر المقاومة وينتصر الحبّ الذي يحرّكهما، لكنّي لا أحب أو أثور أو أُقاوم حتى أنتصر بالضرورة، إنّما لأنّه تعريفُ إنسانيّتي اللازم، ودوري الأوّل لأكون، وليتحقّق وجودي كما أفهمه، وكما أستقبله من الخالق، وكما ألتزم به في كلّ قناعةٍ اقتنعتها.
اغتيال هنيّة موجع ومربك بشكل شخصي وجماعي لكلِّ منحازٍ لهذا المعسكر، لرمزيّة موقعه، وخصوصيّة اللحظة، وارتباط المقاومة في أنظار وأذهان جيلنا به في كلّ مناسبة وصورة منذ اغتيال الشيخ ياسين، ولعلّ شعورًا مشابهًا أصابنا حين اغتيال العاروري وفؤاد شكر وطابور القادة الذي لا ينتهي، ولا يصحّ أن ينتهي إلى أن تنتهي المعركة!
وهو ما أربك الكثيرين منّا وأعاد سؤال “الهزيمة” وإمكانيّة النصر، أو إمكانيّة استكمال المعركة أصلاً لأذهاننا هاجسًا متوحِّشًا يلتهم ما سواه ويلتهم أدمغتنا ذاتها.
ورغم وجاهة التساؤل، وواقعيّة الأزمة وفطريّة الشعور بالوجيعة والفقد وفداحة الخسارة، إلا أنّ أشياء هامّة قد تفوتنا في تشوّش ما بعد الضربة.
– استعادة طابور القادة الشهداء بدءًا من المؤسسين كالشيخ ياسين وفتحي الشقاقي، مؤسس الجهاد الإسلامي، وأبو علي مصطفى، وغيرهم من كبار القادة السياسيين والعسكريين في فصائل المقاومة، والذين خلّفوا على ذات الطريق من أخذ الراية وأكمل المهمّة وفعل الأعاجيب.
– تذكّر حقيقة المطلوب من المقاومة -في فلسطين وأي مقاومة أخرى -في حرب التحرير خاصّة في مواجهة الصهيونيّة بجانب أمريكا وحلف المرتزقة البيض- وأن الصمودَ انتصار واستمرار المقاومة انتصار مهما بلغت فداحةُ الخسارة الإنسانيّة وزلزلتها ولا قابليّتها للتجاوز، ولولا أنّ العدو يعرف ما يعنيه ذلك لما جنّ جنونه لهذا الحد وبلغ هذا الملبغ في الإبادة على أمل أن يُجبر المقاومة على الاستسلام.
– أنّ أقصى ما تحقّق للعدوّ، أو لنتينياهو تحديدًا، متعلّقٌ بالشعبيّة الداخليّة وصورته عند مواطنيه (المغتصبين)، وألا شيء آخر تحقّق على مستوى الحرب، استراتيجيًّا ، خاصّةً مع استمرار الأداء المقاوم على ذات الوتيرة دون ارتباك أو اهتزاز، سواء في عدد العمليات اليوميّة أو الاستهدافات ونوعياتها وعمقها.
– لعلّ الشيء الآخر الذي سيحقّقه نتينياهو بهكذا جنون، هو ما يمكن تسميته بـ “حتميّة اتساع رقعة الصراع”، وهو ما لا أراه سيّئًا بعد ما جرى، لا أحبّ الحرب صحيح، لكنّي أسعى ليتحقق الثأر هنا على وجهه الأتمّ أيًّا كانت المسارات، ولعلّه عجّل بنهايةٍ على غير ما تمنّى أو حسب.
هذا عمّا أتصوّر أنّ ارتباكة الضربة فوّتته على الكثيرين منّا، لكن على الجانب الآخر هناك ما يستحقّ النظر في ذات السياق، إذ إنّ الأداء الإيراني (باعتبار الضربة موجّهة رسميًّا لإيران، وبمثابة إعلان حرب مباشرة عليها، ولا مناص من الردّ الجاد “القاسي” بحسب تعبير خامنئي) بدا مطمئنًا هذه المرّة، ربّما أكثر مما بدا عليه وقت اغتيال قاسم سليماني، إذ لم يأتِ انفعاليًّا، ولا متسرّعًا، وما زال يأخذ خطوات تسير باتجاه إعلان الحرب رسميًّا، الحرب المباشرة أقصد، سواء في شكل التسلّح الحاصل أو التحرّكات الدبلوماسية المستمرّة منذ الساعات الأولى للاغتيال.
ورغم فهمي لبذل إيران ومحور المقاومة لكل الجهود لتجنّب الصراع الإقليمي، تفويتًا للفرصة على “بيبي” المجنون، إلا أنّ اغتيال هنيّة والردّ عليه، والردّ الصهيوني على الردّ لن يتركا مجالاً لللتجنّب في غالب التوقّعات.
وإنّ ظلّ احتمالٌ أخير، يبدو وجيهًا عند النظر لتاريخ الصراعات، يقولُ بأنّ الحرب/الإبادة الدائرة والتي لم تحقّق أيًّا من أهدافها المعلنة منذ لحظتها الأولى، وتلك المرتجلة من العدو وقادته حفظًا لشيء من ماء وجهه، قد تكون في مراحلها الأخيرة التي ستفرض عليه القبول باتفاق يقضي بإنهائها، ويضعُ تصوّرًا للجولة القادمة، سواء من الحرب، أو من النقاش حول وجود هذا الكيان على الأرض المحتلّة.
المهمّ أنّ اغتيال هنيّة وبقيّة القادة الذين ارتقوا كما الجند تمامًا، كما يليق، سيحدّد القادم، أيضًا كما يليق.