سياسة
في المقالين السابقين أوجزت في تفنيد أكاذيب الحكومات المتعاقبة في مصر بشأن مشروع السد الإثيوبي، وفصلت أحيانا ضحالة الكذبات وتناقضاتها فيما بينها لدرجة مثيرة للعجب.
الفقر وقلة الحيلة والاعتراف بالأمر الواقع والضغط الغربي، لم تكن جميعها إلا حججٌ لا تنبري على طفل صغير في عصر الإنترنت والبحث السريع السهل المتاح عن المعلومة، فما بالك بشعب وجوده مهدد بهذه القضية؟! ما بالك بوطن شريانه ينقطع بحجج واهية مسطحة ضئيلة شكلا وموضوعا؟!
الكذبة التاسعة لهذه السلطة وهي كذبة باطلة من مبدأها وهي أن ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة هي السبب في هذه الأزمة وأنه لولاها ما جرؤ أحد على وضع حجر على مسار مجرى النيل وحصة مصر منه. علمًا بأن إثيوبيا سبق وبنت سدا صغيرا ودون اتفاق أيضا، ومر الأمر. وقع ذلك في ظل عنفوان الدولة المصرية واستقرارها المزعوم آنذاك، لكن الحق يقال كان هناك تكلسٌ، بل وإهمال لقضايانا المصيرية لانشغالنا بأمور أخرى. حيث انشغل الساسة بالصراع السياسي ومن سيحل محل من وهكذا. الشاهد أن السلطة شاءت أم أبت يتعين عليها أن تستدعي الجميع وتستمع للجميع.
وإذا لم تكن السلطة وفي شأن كهذا تجالس الأحزاب المصرية الشرعية وتقيم حوارا بناءً، فمتى إذن؟ فكلمة ”اطمئنوا“ التي لم تعد تقنع أحدا من كان، أبدا غير كافية. أتفكر كيف ستسلم هذه السلطة – وهي ستسلم آجلا أم عاجلا – هذا البلد لآخرين يديرونها. في قضية السد الإثيوبي تحديدا لو استمر الوضع على ما هو عليه، ستسلم السلطة مصر بلدا خاضعا. فبدلا من التفكير آنذاك في كيف نطور بلدنا سنضطر للتفكير كيف نحررها أولا! فالانخراط في حوار حقيقي لحل هذه الأزمة الوجودية لمصر ليس خيارا لهذه السلطة وإنما أمانة. لا يصح أبدا أن تنفرد السلطة بقرار في هذه المسألة دون إطلاع الشعب واستفتائه، هكذا ينص الدستور وهكذا تدار الدول الكبرى.
الأكذوبة العاشرة التي جربتها السلطة وانكشفت هي جدوى الاتفاق الإطاري في ٢٠١٥ وأنه حقق مكاسب لمصر كما وأنه لا يغل يد الدولة المصرية في الدفاع عن حقها. هذا الاتفاق المعيب مجرد ورقة. كل الاتفاقات التي توقعها مصر أو أي دولة أخرى بداهة تقدم إلى البرلمان ليصدق أو لا يصدق عليها. إذا صدق عليها وحينها فقط تصبح اتفاقا رسميا. التصديق له إجراءات محددة، هناك أمور تستلزم استفتاءً على سبيل المثال، وأخرى لا تستلزم ذلك وتكفي موافقة البرلمان.وهناك اتفاقيات باطلة من أساسها، كالاتفاقيات التي تقضي بالتنازل عن الأرض مثلا أو المياه. هذا الاتفاق طالبت أن يعرض على البرلمان ورفض الطلب لخمس سنوات إبان كنت نائبا في البرلمان وسأظل أحاول حتى وأنا خارجه. فلو رفض البرلمان هذه الاتفاقية المعيبة تعود الدولتان إلى الاتفاقيات الدولية السالف ذكرها والتي تؤكد حق مصر التاريخي الأصيل في حصتها الثابتة من مياه النيل. ساعتها تدرك إثيوبيا وشركاؤها الذين يعملون على مشاريعهم هناك أن أرض هذا السد هي مسرح عمليات محتمل لمصر.
الأكذوبة الحادية عشرة عار على السلطة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. الأكذوبة أنه لا مانع من أن تصل المياه إلى إسرائيل، طالما سيضمن ذلك وصول حصتنا في مصر من مياه النيل. ابتداء لا ضامن لأن تصل حصتنا من حقنا في مياه النيل إلا أن تكون حقائق القوى على الأرض تضمن لمصر تمكنها من ذلك. وهذا لن يحدث أبدا إذا ما ظل هذا السد بحجمه هذا أو حتى نصفه أو ثلثه، لأنه سيفرض على مصر عبء حراسته. منذ الملء الثاني نٌقل السودان مضطرا إلى الجانب الآخر قبل تطور الأمور في السودان. لا ضمانة لمصر أن تصل إليها حصتها الثابتة في مياه النيل غير أن يكون هذا السد صغيرا، وآمنا، وتشغيله وإدارته مشتركتان، ثم تفوق في القوة لمصر يمثل رادعا لإثيوبيا ألا تتمادى. فائض القوة هذا حاضر وثابت في هذه اللحظة ومنذ اللحظة الأولى، ولو لم نستخدمه الآن نصبح مخطئين في حق أنفسنا ووطننا. وأخيرا هذه الأكذوبة تعيد الحياة لمشروع تستميت إسرائيل في تحقيقه ليس في النيل وحده وإنما في مياه المنطقة بأسرها. وهو ما ينافي عقيدة الشعب المصري والقوات المسلحة المصرية بأن إسرائيل هي عدونا الأول والدائم.
الأكذوبة الثانية عشرة هي أن الملف تتم إدارته عند أعلى مستوى سياسي وفني وهكذا لا خوف هناك ولا ضرر يُتوقع، وأنه يتعين على الشعب المصري أن يلتفت لعمله وإنتاجه وأن يترك القرار لمن هم في موقع اتخاذ القرار. بداية هذا غير صحيح في أي قضية كانت. العلاقة السوية ما بين الشعب والسلطة لا تنص على ذلك ولا تستقيم بهذه الطريقة. من واجب الرأي العام أصلا أن يعين الرئيس والحكومة على اتخاذ قراراتهم التي بالأساس يكلفهم الشعب بالعمل على اتخاذها. الرأي العام الضاغط والضابط مفيد لصانع القرار المصري. وكان مفيدا إبان التفاوض لكن جرى تحييده بخطأ كارثي، ففي الوقت الذي كانت ترسل السلطة رسائل للشعب المصري أن أطمئنوا، كانت السلطة الإثيوبية تحض شعبها على التظاهر لحض حكومتها على عدم التراجع ثم يصدرون للعالم أن شعبهم يضغط عليهم وهكذا.
القول الفصل هو أن الكفاءة في إدارة هذه القضية المصيرية تقتضي إشراك الرأي العام المصري وإيصال رسائل واضحة من خلاله شعبيا ومن خلال ممثليه في السلطة التشريعية الذي يُفترض أن يكون سقفهم أعلى من السلطة التنفيذية لا أن يحيدوا تماما.
كل أجهزة وأدوات الدولة يجب أن تكون شريكة في حل هذه القضية، وكل أدوات القوة الشاملة ينبغي أن تستنفر، وفي مقدمتها هذا الشعب، القديم قدم التاريخ ليكون بحق داعما للدولة المصرية في إطار خطة وطنية متفق عليها، معروف حدها الأقصى والأدنى، ويعرف المصريون الثمن الذي سيدفعونه في معركة بقائهم مع إثيوبيا مسبقا ومستعدون له، لا أن يصدقوا أكاذيب ليقدموا شيكا على بياض لسلطة تسيء إدارة الملف بدرجة تهدد وجود مصر.