كم من أكاذيب روجت لها الحكومات المصرية المتعاقبة منذ شروع إثيوبيا في إنشاء سدها، تارة بالهروب إلى الأمام مدعية أن الأمر الواقع لا مفر منه، وأن التعامل مع السد سياسة اختيارية للمفاوض المصري، ينبغي أن يعترف بها أولاً ليتفاعل معها، وتارة أخرى بالغوص في الجوانب الفنية للقضية، بما يدفع المواطن إلى تفادي محاولة تفهم الأمر وما له وما عليه. في المقال الفائت فندت أربع أكاذيب تمسكت بها السلطة الحالية في مصر وتشبثت، حتى لتحسب أنها عين الحقيقة.
الأكذوبة الخامسة هي ادعاء السلطة أن هشاشة نظام مصر الاقتصادي لا يؤهلها لتكبد حرب ناهيك عن كسب تلك الحرب. قلتها وأقولها دوما، استطلاعات الرأي والحوار المجتمعي، مكمل لا غنى عنه لتشريعات المجلس النيابي لاعتماد أي قرار تقوم على تحقيقه السلطة التنفيذية. استطلاعات الرأي بالمناسبة ليست منة ولا منحة، وإنما ابتُلعت مثلها كمثل حقوق أصيلة كثيرة للمواطن المصري نص عليها الدستور، لكن القانون الذي ينص عليها لينظمها هو الذي يمنعها. لو كان الأصل في المسألة هو أن هذا الشعب سيد هذا البلد، وهذا ليس من قبيل أعمال الإدارة التي يفوض فيها سلطاته لحكومة لترعى هذه السيادة، فالسبيل إذا لتأكيد الولاية والثقة في هذه السلطة أن تجري استفتاء تسأل فيه الشعب السيد في وطنه السيد عن أمر في صميم سيادته، بل في صميم وجوده. الحرب ليست نزهة، وأبدا لم تكن خيارا أوليا لهذا الشعب الطيب.
لكن الحرب في مكنونها إذا فُرضت على أمة، فاستسلمت وتجنبت الدفاع عن وجودها تكون قد خرجت عن التاريخ. الدفع بهشاشة ضعف اقتصاد مصر فيه بعض الحقيقة، فلكي تقارن بين قوتين على شفى حرب شاملة أو جزئية، يتعين عليك مراعاة النسبة والتناسب. بعض الحقيقة أن اقتصاد مصر هش، سيما في ظل هذه السياسيات الفاشلة بل الممعنة في الفشل، لكن الاقتصاد الإثيوبي أضعف. فارق القوة بالتأكيد محسوم عسكريا لصالح طرف مصر. أخطر ما في هذه القضية هو عنصر الوقت، للأسف حذرنا منذ الملء الثاني من هذا العنصر لأنه بفواته يتغير شكل الدولة المصرية، ربما لعقود، وربما لقرون وربما إلى الأبد.
الأكذوبة السادسة هي الموقف الأمريكي والأوروبي الذي لا يرى الحل في الحرب بالتالي يمنع مصر عنها. عجب العجاب أنهم ذاتهم من يتغنون بالسيادة المصرية ورفض ما يعتبرونه تدخلا في السيادة المصرية لما يُفتح ملف حقوق الإنسان في مصر. فإذا ما تعلق الأمر بحقوق الإنسان في الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية تقفز العبارات الرنانة كالسيادة والاستقلال وغيرها. بينما حين يتعلق الأمر بوجود مصر ذاتها من عدمه يُدفع بأننا رهن بالإرادة الغربية في أمر يمس صميم كينونة الدولة المصرية لا سيادتها فقط. نحن نتفق مع هذا الطرح، أن نقف مع أنفسنا ونقر بمشكلاتنا ونعمل على حلها مستقلين دون أخذ الدروس من الخارج، لكن أن نقف عاقدي الأذرع أمام خطر يهدد أصل وجودنا فهو قول حق يراد به باطل. على كل ما أصابنا لعقود وهو ليس بالهين، تبقى حاجة الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى مصر في المنطقة أكبر من حاجة مصر لهم. مصر كبيرة وكبيرة جدا، تحتاج فقط لأن يعي من يدير شؤونها حجمها. ولعلني لست بحاجة للتدليل على ذلك في الجولة الأخيرة من العدوان على غزة والدور الذي كان يتعين على مصر أن تلعبه لولا ساستها.
الأكذوبة السابعة للسلطة المصرية تجب كل ما سبق وتناقضه، إذ تعترف السلطة ضمنا بكارثية بناء السد بالقول ألا مشكلة إذا تم البناء والتشغيل، ساعتها يمكن لمصر أن تحتل الأرض التي بني عليها السد، والسيطرة عليه وإدارته. من يدفعون بهذا الدفع يتحججون باتفاقية ١٩٠٢ انتقال ملكية أرض بني شنقول للإثيوبيين شريطة ألا تُقام أي مشروعات تؤثر على كمية أو مواعيد ورود المياه إلى مصر. أتعجب كثيرا من هؤلاء الذين “يبحثون عن ابنهم وهو على كتفهم” كما يرد المثل المصري الصميم. الاتفاقية ذاتها تمنع التلاعب بالمصالح المائية المصرية. فلماذا نعترف بوجود السد كأمر واقع ثم نبحث عن الاتفاقية لاحتلال أرضه إذا كان بناؤه من الأساس محظورا بموجب الاتفاقية!
الأكذوبة الثامنة أن لمصر بدائل داخلية وخارجية لتعويض الحصة المنتقصة بدءا من الملء الأول للسد. تنفضح هذه الأكذوبة بمجرد التفكير فنيا في اضطرار إثيوبيا لتصريف المياه بعد ملء الخزان. أولا هناك خطط معلنة من الجانب الإثيوبي لزراعة ما يقارب من مليوني فدان بالقرب من السد، فضلا عن أن إسرائيل والإمارات والسعودية من أكثر الدول التي تستثمر في هذه المنطقة وهذا واقع. فكيف بالله يكون لخصمي هدف معلنٌ باستخدام مياه التخزين بغرض الزراعة، فضلا عن إعلانه صراحة أنه غير ملتزم بحصتي التاريخية من مياه النيل بل ويرفض حتى التفاوض بشأنها، ثم يوقع المفاوض المصري على بند السماح باستخدامات أخرى للمياه غير إنتاج الكهرباء ضمن اتفاق ٢٠١٥، ثم نوهم مواطنينا أن إثيوبيا مضطرة لتصريف المياه بعد تخزينها؟ إذا لم يكن ذلك هو التدليس فماذا يكون إذن.
في مقالي القادم أفند أربع أكاذيب أخرى روجت لها السلطة وأذرعها الإعلامية وصدقها للأسف كثيرون.