تجارب
في ليلةٍ يعلو بها صوت القذائف المدفعية والتي تدكّ الأراضي المفتوحة حول منزلنا من كل جانب، إنّه صوتٌ يشبه اهتزاز الأرض وجسدك في اللحظة ذاتها، تلك اللحظة التي تدرك بها أنّ الموت ليس ممكناً، وإنّما حقيقة مطلقة وقدرٌ محتوم واقع في اللحظة التي لن تستطيع أن تشعر به بذلك الاهتزاز الشديد لتعلم أنّك غبت فيه للأبد، لذلك كلّما ارتجف جسدي بين الصواريخ والقذائف أدرك أننّي مازلت على قيد الحياة، كانت الصواريخ المتشظّية تعبر من أمامِ نافذتي المكسورة، وكنت أُصلي بانكسارٍ شديد، فقد انقطعت كل الأسباب عني، ولا شيء أمامي سوى نار الحرب، ولا شيء في قلبي سوى نور الله.
أتذكر بأنني بكيت جدّاً في تلك الليلة، وفي لحظةٍ شعرتُ فيها بقربٍ شديد من سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقع في قلبي أنّه يسمعني فناجيته بألم: “كنت أتمنى جدّاً زيارتك والنظر إلى قبّتك الخضراء، كنت أحبّ أن أسلّم عليك وأن أرى الحمام يطير فوقك، وأن أتنسّم الهواء الذي يعبر عبر روضتك الشريفة، كنت سأحبّ الطريق الذي يؤدي إليك، الشجر المزروع خلاله، الممرات، الحافلات، العيون التي تزورك كأنها تراك، الحرّاس الذين يقفون بجانبك، النقوش التي رُسِمَت على مقامك، تمنيتُ بأن أحسّ بكلّ ذلك، لكنّ الحرب طالت ولا سبيل لأفكّ هذا الحصار عنّي، تمنيتُ لو أكتبُ عن أولِ زيارةٍ لجنابك الشريف، عن ذلك الشوق الذي يغمرني تجاهك، وعن ذلك الحبّ المكنون والذي يفوق كلّ وصف، كنتُ سأخبرك الكثير وسأقرأ لك الكثير من القصائد وسأبكي كثيراً أمامك كطفلة تاهت طويلاً في زحام العمر ووجدَتْ والدها فجأة، لا أريدُ أن أموتَ قبل أن أفعل هذا يا حبيبي” .
مضت عدّة أيام فجاءني خاطر أن أفتح الرسائل التي تكون ضمن الطلبات عبر تطبيق انستغرام، فلمحت رسالةً فيها كلمة النبيّ، فوجدت نفسي في مجموعة من ثلاث فتيات، رولا وأفنان ورفاه..
كتبت رولا: “لقد دخلنا صفحتك يا آلاء وأحببنا مقالاتك جدا وكنّا نتداولها فيما بيننا ونناقشها بمتعة، وأحببنا حبك للنبي عليه السلام، إننا كل يوم نتحدث عنك لو تعلمين، ونحن ندعوك لزيارته في المدينة، يبدو أمراً مخجلاً أن ندعو حفيدة لزيارة جدّها، لكننا نحبّ أن نزور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حفيدته”.
لا يمكن أن أشرح كيف كان شعوري وأنا أقرأ تلك الرسالة، لكنني في كلّ كلمة كنت أسمع صوت رسول الله يقول لي أنا أدعوك لزيارتي يا آلاء، كم كان يسمعني النبيّ صلى الله عليه وسلّم. الحقيقة أنّ الأمر لم يتوقف عند تلك الرسالة التي شكرتهن عليها، ووعدتهن باللقاء إذا استطعت السفر .
لقد كانت رولا إحدى أجمل هدايا النبي عليه السلام لي، لقد حاولتْ أن تفعل كل شيء من أجلي، في وقت لم أكن أتحدث معه حتى مع أقرب الناس إليّ، وقد طغى على قلبي الحزن، وما زال يذبحني الفراق، لكنْ وكأنني أعرفها منذ وقت طويل وكأنّ لديها التزاما أن تتفقد قلبي من الدموع كل صباح ومساء.
كلّما شعرت باليأس والإحباط، وجدتها ترسل لي اليوم سأذهب إلى مكّة، سأرسل لك الفيديوهات وأفتح لك الكاميرا سترافقينني، أطوف مع رولا، أحدّق في الكعبة، أرى وجوه المعتمرين، أشرب معها من ماء زمزم، تُسمعني تسجيلات دعائي وهي تطوف به وفي أحيانٍ كثيرة تذهب إلى المسجد النبوي ترسل لي “هيّا أنت الآن ترافقينني”، نحن الآن مع رسول الله تقرأ قصائدي في باحته وتصوّر لي وأسجّل لها أدعيتي وتصوّر لي مقاطع فيديو لصوتي من هناك، وهكذا كانت تفعل كلّما أحسّت أن الحزن أكل قلبي.
وليس ذلك فقط، ترسل لي كل الكتب الأدبية الأخيرة، والأوراد المخصوصة، وتحدّثني عن الله عز وجل في قلبها وقلب كل من تعرف ودائما تقول لي أحب أن أرقب شهود الله في قلوب عباده، لقد حاولتْ أن تفكّ حصار الحرب عنّي بكل ما استطاعت، وكلّما خنقني اليأس كانت تحسّ بي جدّا وكأنّ قلبها متصلٌ بقلبي، فأجدها ترسل لي أرجوك لا تستلمي ستزورين رسول الله، أرجوك سامحيني يا آلاء، نحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً من أجلكم، وإنّي أشفق عليها من شدّة اعتذارها منّي وخجلها ذاك الذي ألمسه بين كل حرف وحرف، رولا التي لا أعرفها لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفها جيّداً، ليرسلها لي.
أخبرتها مرة أنت حمامة رسول الله، لقد نقلت لي رسالته يا حبيبتي وإن كنتِ لا تدركين ذلك، تفرح رولا وأفنان ورفاه لهذا الاسم، وإنني حقّاً أحسهنّ حمائمه؛ رولا كاتبة قصص أطفال، وأفنان رسّامة، ورفاه أخصائية نفسية.
كتبت رولا قصة الاحتلال المجرم حين قتل أطفالي الأربعة، ورسمت أفنان لوحة لأربعة عصافير تحمل بمناقيرها أسماء الله الحسنى واسم النبي صلى الله عليه وسلّم، وتطير عبر شعاع نور نحو الفضاء كانت لوحة عظيمة وقالت لي هؤلاء أطفالك، أنظري كم هم رائعون، بينما رفاه كانت تُمتعني دائماً بتعليقاتها الأدبية الفلسفية الرائعة، والتي أقرأ عبرها مئة كتاب.
سألتهن في بداية تعارفنا: هل أنتن فلسطينيات؟ فأجبنني: نحن بنات جدّة، لكننا فلسطينيات الهوى..
رولا، أفنان، رفاه، لا أعرف ماذا سيحدث بعد دقيقة من الآن في هذه الإبادة الجماعية بحقّنا في غزّة، وإن لم يكتب لنا الله اللقاء، ومهما كان قدر الله عزوجلّ، فاعلَمْنَ أنّه يواسيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بِكُنّْ.