سياسة

غزة العنقاء.. والموت القادم من السماء

أغسطس 2, 2024

غزة العنقاء.. والموت القادم من السماء

في الحروب تتعدد أشكال الموت، قد يأتي على هيئة رصاصة أو قذيفة دبابة أو دانة مدفع. لكن أكثر الأنواع رعبًا هو الموت القادم من السماء بلا إنذارات وبلا مؤشرات على اقترابه.


ومن عجائب السوء، أن أول مدينة في التاريخ أتاها الموت جوًا كانت مدينة عربية، طرابلس الليبية عام ١٩١١ على أيدي الإيطاليين، بعد ٨ سنوات فقط من أول تجربة طيران ناجحة. لكن القصف جاء بشكل هامشي غير مؤثر، نظرًا لعدم توفر التكنولوجيا المناسبة، فاستخدم الطيارون “قنابل يدوية”، وألقوها من الطائرات دون إصابات.


على مدى السنوات التالية لهذه الواقعة، اجتهدت الجيوش ومصنعو الأسلحة، أن يطوروا السلاح الجوي ويجعلوه مرادفًا للموت. ليس فقط للجيوش المقابلة، ولكن للمدنيين. 


وفي القواعد البربرية التي أسسها جنكيز خان قائد المغول، التي تعلم منها الإنسان الحديث، كانت تقتضي الحرب أن توقع أكبر عدد من المدنيين لتشكيل صدمة ولإثارة الرعب ولدب الفرقة ولإشغال الجبهة الداخلية. هذا النهج بادىء الأمر كان يتم بدوافع همجية ودون تخطيط، قبل أن يتحول إلى منهج وجزء أصيل في عقول الجيوش الحديثة.


غارنيكا ١٩٣٧

 

دمار، حريق، أشلاء ممزقة، امرأة تصرخ بكل ما أوتِيَت من قوة وهي تحمل طفلها الميت، حصان يفتح عينيه الزائغة بألم وهو يخرج أنفاسه الأخيرة بعد أن مزقت الشظايا جسده. وجوه الهاربين من القصف ينظرون للسماء بفزع كامل، ملامحهم توحي أنهم يعلمون يقينًا أن بينهم وبين عتبة الموت لحظات، كل شيء يختلط بكل شيء.

 

تلك كانت تفاصيل اللحظة الأولى لقصف “غارنيكا”، التي أضحت شهيرة بعد أن وثق كارثتها الفنان الإسباني بيكاسو في لوحة “غارنيكا”. مشهد القصف الجوي  أو “الموت من السماء” نستطيع أن نؤرخه بهذه الواقعة تحديدًا.

 

نهار الاثنين 26 إبريل 1937، كانت قرية غارنيكا الإسبانية على موعد مع تجربتها للموت، مع أسراب الطائرات الألمانية التي ظهرت فجأة في سماء القرية. الهجوم الألماني تركَّز على “سوق القرية”، قُتل فورًا في الهجوم أكثر من ١٦٠٠ مدني، معظمهم كانوا يتسوقون أو يحاولون الهرب من السوق لحظة بداية القصف.

 

لم يكن مفاجئًا أن المهاجمين اختاروا توقيت الغارات يوم الاثنين أثناء انعقاد السوق الأسبوعي، وذلك رغبة في قتل أكبر عدد من المدنيين، لخلق تأثير الصدمة والضغط عليهم. (هل يذكركم هذا بشيء؟).

 

الحرب العالمية الثانية

 

عادة ما تُستغل الحرب العالمية الثانية كمثال على مدى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان عندما يقرر إبادة مدينة دون أدنى اعتبار للمدنيين ولعدد القتلى.

 

مدينة دريسدن “الألمانية” التي قصفها الحلفاء بالطيران حتى أحالوها ركامًا، كانت المثال الأوضح للبربرية، حتى ضُرب بها المثل.

 

مدينة هامبورغ الألمانية هي الأخرى نالت شهرتها من التدمير جوًا على يد الحلفاء. وطبقًا لهندريك ألتوف، الباحث في قسم التاريخ بجامعة هامبورغ، فإن الحلفاء أسقطوا 8500  طن من القنابل على هامبورغ صيف 1943، و3900 طن من القنابل على دريسدن عام 1945، ما يجعل مجموع قصف كليهما 30700 طن من المتفجرات.

 

الألمان بدورهم استهدفوا مدن “الحلفاء” الكبرى بأطنان الذخائر. تُقدر “نيويورك تايمز” ما ألقته الطائرات النازية على لندن بما يقرب من 18300 طن من القنابل بين عامي 1940 و1941، قبل أن تختتم الولايات المتحدة الحرب بعرض كارثي عندما ألقت قنبلتين نوويتين على اليابان بزنة 40 ألف طن.

 

بعد نهاية الحرب وتوقف الرصاص، قرر العالم إنشاء الأمم المتحدة 1945، ثم محكمة العدل الدولية 1945، واتفاقيات جنيف 1949، ونظام روما 1998 الذي خرجت من رحمه المحكمة الجنائية الدولية. كل هذه التحركات كان لها غرض واحد،  منع تكرار الوحشية التي وقعت في الحرب العالمية الثانية وتجلت في قصف المدن والمدنيين بما في ذلك دريسدن ولندن وهيروشيما وناجازاكي وغيرهم.

 

غزة 2023/2024


قطاع صغير، يبلغ طوله 41 كم، وعرضه من 6 لـ 12 كم. في الحرب الحالية استخدم الإسرائيليون معه كل ما في جعبتهم. تراث المغول، ووحشية المتحاربين في الحرب العالمية، مصحوبة بأعتى تكنولوجيا السلاح الجديدة.

 

كان الموت القادم من السماء دائمًا طريقة الإسرائيليين المفضلة. موقع “غلوبال” الإسرائيلي قال إنه منذ خريف 2023، أسقط الجيش الإسرائيلي أكثر من 100 ألف طن من القنابل والصواريخ على غزة.

 

لو تذكر عزيزي القارىء أن العالم انتفض بعد الحرب العالمية وأقام المحاكم والاتفاقيات كيلا نصل إلى “دريسدن” جديدة، لكن الإسرائيليين قصفوا غزة بـ ٣٣ ضِعف القنابل التي ألقيت على دريسدن، وأكثر من ضِعفي القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على هيروشميا وناجازاكي، وهناك نقطة مآساوية أخرى بالنظر إلى حجم قطاع غزة مقارنة مع أحجام هذه المدن، ما يزيد تركيز هذه القنابل ويجعل لعبة الأرقام تتحول إلى كابوس.

 

دورية “لانسيت” الطبية البريطانية، وهي واحدة من أشهر وأقدم الدوريات الطبية في العالم، نشرت تقريرًا قالت فيه إنه من المتوقع أن يصل عدد شهداء هذه الحرب على غزة إلى 186 ألف شهيد، أي ما يمثل 8% من السكان، بعد إحصاء الشهداء تحت الأنقاض ومجهولي الهوية، بالإضافة إلى ما سينتج عن تدمير المستشفيات وتفشي الأوبئة.

 

تقارير أخرى تتحدث عن السنوات الطويلة التي تحتاجها غزة لإزاحة الركام، وعشرات السنوات لإعادة البناء، ولا شىء يعيد من رحلوا.


بلدية غزة، عاصمة القطاع تتخذ شعارًا قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى. عندما تقع عليه عيناك قد لا تفهم ما هذا الطائر في الصورة، ولكن ببعض البحث تكتشف أن من وضع هذا الشعار كان يعرف قَدَر هذه المدينة. هذا الطائر هو العنقاء، ذاك الكائن الأسطوري الذي تقول قصته إنه إذا اقتربت ساعة موته، عمد إلى إقامة عش بين الأشجار البعيدة العالية، ثم أضرم النار في نفسه، حتى إذا صار رمادًا، نهض من جديد. يظهر جناحاه أولًا، ثم ينتفض ويخرج من النار، عنقاء أشد وأقوى وأبقى.

 

لا أصدقاء يكونون معه في لحظته الأخيرة ولا لحظة ولادته الجديدة، يقاتل وحده، يموت وحده، ويولد وحده.



شارك