في غيابات الجُب، حِكمٌ لم نرَها بعد في غيابات هذه الخيمة، وفي هذه الصحراء الشاسعة، الحارقةِ شمسُها نهاراً والقارصِ بردُها ليلاً، لا يسعُني سوى تذكُّر سيدنا يوسف وحيداً في غيابات الجُبِّ وظلمتها. تجلَّت كُلُّ أبواب الحكمة في حادثة سيدنا يُوسُف، عليه السلام، حين تكالب عليه إخوتُه وألقوْا به في غيابات الجبِّ السحيقة.
حين ننظُر من بعيد، لا نرى سوى عجزِ سيدنا يُوسف، ولكن، عندما نوسِّعُ الصورة، ونرى المشهد كاملاً من كافة اتجاهاته، نجد أنّ كلّ الحكمة قد تجلّت في تركِه عليه السلام، وحيداً، مُسلِّماً نفسهُ لإرادة الله، ومُوقناً، رغم حداثةِ سِنّه بأنّ الله معه، يصحبُهُ كظِلّه، ويسيرُ به نحو الطريق التي كُتبت له، مُهيّئاً له كلّ أبواب الخير والنجاة.
وأمّا السنواتُ التي قضاها في السجن، فما كانت إلاّ تذكيراً له بأنّ العون لا يُطلب من غير الله، وبأنّه إذا أراد تسخير الكون لنُصرةِ عبدٍ من عباده، فسيفعل، ولن يكون ذلك إلاّ بأمره وحده. لم يكُن بيتنا كبيراً، بيسرح فيه الخيل، كما اعتدنا القول بالعامية، ولكنّه كان عامراً بالحب الذي ترعرعَ فيه لأكثر من ستِ سنوات، حتى غدا شجرةَ دلبٍ مُباركة، جذورها الُحبُّ والمودة، وساقُها التفاهم والتنازل، وفروعها أبناؤنا الصغار.
ولا يمكنني القول بأنّ بيتنا كان كالجنة، دافئاً في الشتاء وبارداً في الصيف، ولكنّنا أحببناه حتى تملّكَنا الرضى، فأوقدنا في وسطه نار حبنا حين باغتتنا الليالي الباردة، وتجمهرنا بجوار نافذة غرفتنا المُطلّة على أجمل بحار العالم حين اختنقنا من ألسنة الصيف الحارقة. لم يكن بيتُنا قصراً لكنّه كان ممتلأً بالتفاصيل التي تخُصُّنا، ابتداءً من حوض الأسماك الذي لطالما تخاصمنا عليه، فأقترحُ أنا بيعه لنضع مكانه شجرةً خضراء جميلة، ويرفضَ محمود مختتماً الشجار بأنّ هذا الحوض باقٍ لا مَحالة، ولشدة وفاء حوض الأسماك، أتمعّن في صورة منزلنا بعد تدمير معظم ما فيه إثر القصف المتواصل على محيطه، فأجدُ بلاط الجدران قد تحطّم وأصبح فُتاتاً، ولكنّ الحوض ما زال على حاله، لم يتزحزح ولو قيدَ أنمُلة، محتفظاً بداخله بالقنديل الاصطناعي الذي يتراقصُ في مياهه المُخضرَّةِ مع كلِّ غارة! انتهت التسعةَ أشهر، ودخلت الحربُ شهرها العاشر، لتُنذرنا بأنّ الولادة مُتعسّرة، وبدلاً من العودة لبيوتنا في الشمال، يُطالبُ الاحتلالُ الصامدينَ بالنزوح، ووددتُ لو أُرسل لهم رسالةً عبر مُكبِّرات الصوت لأقول لهم، لا تُكرِّروا نفس الخطأ، ولا تظنُّوا أنّ الراحةَ هنا، فها نحنُ منذ ما يُقارب العام، نعيشُ مُهجّرين مطاردين، ينهشُ لحمَنا الانتظار، ويشربُ من دمنا كمصاصِ دماءٍ خرج من زنزانته التي قضى فيها خمسمائةِ عام مُقسماً بألاّ يترُك فينا أيّ قطرة دم. نحنُ الذين نتمنّى الموت كلّ يوم، وفي الوقت ذاته، نخشى أن نموت ونُدفن في المنفى، ليقول العدو، لقد قتلناهم وهم هاربين!
حينَ تتآكلني هذه الأفكار كطيرِ غرابٍ يدُقُّ منقارهُ في رأسي، تحضُر أمامي صورةُ أخي الشهيد الذي قضى إلى ربِّه في الثامن عشر من شهر يوليو، مقداماً مغواراً رافعاً رأسه ورامياً شبكة الصيد الخاصةِ به على بحر غزة قرب حدود نيتساريم، ليدحض بذلك كل ادّعاءات العدو وليُشهد العالم بأنّه لن يستطيع نفينا وسجننا في حدودٍ اختارها هو رغماً عنّا. ها هو إبراهيم، الذي اعتاد منذ صغره ممارسة هواية صيد العصافير على حدود شمال غزة مُغيظاً بذلك إسرائيل، يُغيظها مرةً أخرى، ويلقى ربّه وبيده شبكةُ صيده على الحدود الفاصلة بين شمال غزة وجنوبها.
لم تُفلح خرزانةُ أليكس ودايفيد بقمع حُبِّ إبراهيم لوطنه وبحره على وجه الخصوص، ولم تُفلح أساليبُ التعذيب الوحشية التي مارسها الجنودُ الصهاينة على جسده النحيل في جعله عالةً على المجتمع، ولم تُفلح رشقات الرُصاص التي انهالت على أقدامه حينَ ألقوْه على معبر كرم أبو سالم في زرع الخوف والجُبن في قلبه. فها هيَ الآيةُ قد انقلبت، وها هو إبراهيم العاري اليدين، سوى من شبكةِ صيده، يُخيفُ جنودهم المُختبئين داخل الدبابات الحديدية، ليقومَ جُنديٌّ لقيط، بقنصه بقدميه كي لا يستطيع الفرار، ثم يُصيبُه في قلبه، ظانّاً بذلك بأنّه قد انتصر، ولكنّه ينسى بأنّ شهدائنا في الجنة، وقتلاهم في النار.