تأملات
نسمع كثيراً عن مصطلح الاصطفاء، وكل نبيّ هو مصطفى، أي أن الاصطفاء يسبق النبوّة، كما أنّه يسبق الولاية، لكنّ الاصطفاء ليس اختياراً مجرّداً إنّه إعداد ربّاني، ليكون مرادفاً للمعنى الإلهيّ “الله أعلم حيث يجعل رسالته”، على الصعيد البشريّ، يصطفي الرئيس من وزرائه، والوزير من نوّابه، والمدير من طاقمه، فيُقرّب ذاك ويُبعد ذاك، ولا يحدث التقريب جزافاً، غالباً يتأتى بعد ملاحظة ومراقبة حثيثة وأحياناً اختباراتٍ مباشرة وغير مباشرة، إنْ كان هذا يحدث على صعيد النفس البشرية القاصرة الجهولة، فكيف يكون الاصطفاء على صعيد الربّ العظيم المعظّم، لك أن تتخيّل إذن.
والاصطفاء مشتق من الصفوة ومنه يندرج الصفاء، وحين يصطفي الرحمن من عباده فإنّه يصطفيهم على صعيدين الظاهر والباطن، وهو القائل عن نفسه “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير” يدركُ ولا يُدرَك سبحانه تعالى.
وإذا نظرنا إلى حال النبيّ صلى الله عليه وسلّم نجد بأنّه منذ أول لحظة حملت به أمّه السيّدة آمنة بدأت بشارات الاصطفاء وفي كل مراحله العمرية المختلفة، وتجاربه السلوكية وخلواته وصلواته ونأيه عن الشرك، إلا أنّ إعلان الاصطفاء كان بتوقيت ربّاني محكم، حين بلغ المصطفى سنّ الأربعين. وهل هذا يعني أنّه قبل الأربعين لم يكن في مقام الاصطفاء؟ بلى كان كذلك ولكنّه كان في إعداد الاصطفاء، وعند الأربعين تحقّقَ به بكلّ كلياته، وأظهر ربّي مقامه النبويّ الكامل للناس قاطبة.
وهذا ما حدث مع كل أنبياء الله تعالى واختصّ منهم بذلك سيّدي إبراهيم عليه السلام، منذ أول لحظة طرح فيها سيّدنا إبراهيم سؤاله هل الشمس ربّي؟ كان ربّي يعدّه ويصنعه على عينه، إلى أن أعلن اصطفاءه أمام الملأ حين أظهر المعجزة على الملأ وأصبحت النار برداً وسلاماً.
وأحببت في هذا السياق الاصطفاء المريميّ، لأننّي لاحظت فيه أمراً جذبني بشدّة ووقفت أمامه طويلاً لقد خصّها ربّي باصطفائين، منهما استنتجتُ مراحل الاصطفاء ومراتبه. يقول الله عزّ وجلّ : “وإذ قالت الملائكةُ يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساء العالمين”، الاصطفاء الأول اصطفاء تطهير، هو اصطفاء العبادة والخلوة والقرب والصبر بكل اختباراته ليرقّيها إلى اصطفاء أعظم وهو أن تكون أمّ المسيح عيسى عليه السلام، لا يمكن أن تكون من تحمل بسيّدنا عيسى امرأة عادية، ولا يمكن أن تستوعب امرأة أن تحمل دون رجل إلا إذا كان الله عزّ وجلّ قد أعدّها مسبقاً عبر التقريب والوصال والاختبارات الظاهرية والباطنية لتكون مهيئة لاستيعاب هذا الأمر، فنقلها اصطفاء التطهير إلى اصطفاء عظيم بأن تكون مصطفاة على نساء العالمين، في زمانها وامتداد الأزمنة القبلية والبعدية، لتكون السيّدة مريم العذراء عليها السلام. يعني لم يكنْ الاصطفاء المعلَن الظاهريّ لولا أنّها عبرت على الاصطفاء الإعداديّ الباطنيّ، وحين يتمّ التطهير بالمراد الإلهيّ، يكون الإظهار والإعلان عنه.
وفي كلّ أمرٍ هنالك اصطفاء، وفي كلّ اصطفاءٍ سرّ، نجد أن الله عز وجل اصطفى من القرآن سورة الفاتحة الشريفة، ومن الآيات آية الكرسيّ، ومن الأنبياء سيّدي محمد إذ قرن اسمه بإقرار التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، واصطفى من آل بيوت المسلمين آل بيت النبيّ عليهم السلام، ومن أصحابه فقد اصطفى سيّدنا أبو بكر، ومن القادة فقد اصطفى القائد الذي سيفتح القسطنطينية أي القائد محمد الفاتح، ومن النساء اصطفى السيّدة مريم عليها السلام، والسيدة آسيا زوجة فرعون، والسيدة فاطمة عليها السلام، ومن الأشجار اصطفى شجرة الزيتون، ومن الزيوت زيتها، ومن الأصوات صوت سيّدنا داوود، ومن الخطوط خطّ سيّدنا إدريس، ومن الأوقات وقت الفجر، والثلث الأخير من الليل، ومن الأراضي فقد اختصّ مكة المكرمة بالكعبة الشريفة، واختصّ المدينة المنوّرة بمستقرّ النبيّ عليه السلام حتّى دُفن بها، وقد اختصّ فلسطين أن كانت معراج حضرة النبي إلى الحضرة الإلهية، واختصّها بالطائفة المنصورة، وحين دعا النبيّ عليه السلام اختصّ بالدعاء أهل الشام واليمن، وقد أعلمنا حضرة النبيّ بنبأ مكان الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها، حين سأله الصحابة وأين هم يا رسول الله فقال في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس، إنّ الويلات التي عاشها الشعب الفلسطيني منذ احتلاله عام 1948م تفوق كلّ تصوّر لكنها إعداد الله لطائفته المنصورة، إنّه إعداد يشبه إعداد الأنبياء وتطهيرهم، فهم في مقام النُصرة مهما تكالبت عليهم المؤامرات، لذلك نجدهم في أعلى مقامات الصبر، لا يمكن أن يصبح العبد صابراً على فقد كل أهله فجأة، إنّ ربّي أعدّه إيمانياً مسبقاً ظاهراً وباطناً وهذا من عدله سبحانه وتعالى، لذلك تجد رجلاً يُسْحَبُ من تحت الأنقاض وهو يتلو القرآن أو أنّه يقرأ آية معيّنة قبل أن يلفظ أنفاسه، وغالباً تجد الفاقدين متأدبين مع الله عزّ وجلّ وهم يقولون رغم قسوة الفاجعة التي تأخذ بالعقل الحمد لله، علقت في ذهني عبارة لسيّدة فلسطينية هي الناجية الوحيدة بعد قصف كلّ عائلتها، قالت: “أولادي جدّاً يحبونني، من شدّة حبّهم لي أخذوا قدميّ معهم إلى الجنّة” لا يمكن أنْ تنطق هذه العبارة امرأة غير مُعَدّة إيمانياً أو امرأة غير مصطفاة، فالابتلاء على قدر الإيمان، وعلى هول ما نرى الآن في غزّة وكأنّها أهوال يوم القيامة لكننا نوقن أن الله لا يكلّف نفساً إلا وسعها، وعلى قدر التكليف تكون الإعانة من الله عز وجلّ وتسخير الأسباب لتحقيق مراده، وهو يعلم ما لا نعلم، وإنّ أهل فلسطين لمنصورون وليس أمراً عجيباً على الله نصرهم، فقد نصر أهل بدر وهم قلّة آنذاك، السرّ يكمن في الاصطفاء والمدد الإلهيّ، أمّا العدوّ فإنّه مهما دبّر، فتدبير الله أعلى، ومهما خطّط وعاث فساداً في الأرض والبشر والحجر فلن يكون إلا أمر الله في هذه الأرض المقدسة، وهو نصره المبين ووعده التامّ يقيناً مطلقاً في أرض المحشر والمنشر.
والسلام على نساء غزّة الماجدات، مريمات هذا الزمان .