ضيوف سطور
رغم المأساة المستمرة التي باتت تطال قسماً كبيراً من وطننا العربي وشعوبنا العربية، وحيث أصبح الإنسان العربي يُعاني شتى صنوف الانقسام والتقسيم والتفتيت والحروب الأهلية والتهجير وتضييع الفُرص وتبديد الإمكانات. ورغم ما يعانيه شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة الغربية من جرائم الإبادة الجماعية، والتدمير المنهجي المروّع، والتهجير القسري الذي يستمر العدو الصهيوني في ارتكابه.
أقول رغم ذلك كلّه، فإنّه لا يجوز أن يكون هناك مكان لليأس في قلوب وضمائر شبابنا العربي، إذْ لايزال بإمكانهم أن يستولدوا أملاً في فجر جديد، وأن نسعى جميعاً لتحقيقه، من خلال تكوين إدراك حقيقي بعدالة قضايانا العربية، وبإمكان تحققها إن اجتمعنا وإن أخلصنا النيّات، واستمعنا إلى نداء مصالحنا الحقيقية، لا نداءات لعبة الأمم من حولنا، واعتمدنا نهج الإصلاح الحقيقي والمثابر من أجل تحقيق النهوض، بما يعني العمل بجد لتصحيح مسارات أوطاننا وشعوبنا العربية للتلاؤم مع مقتضيات العصر، ومع حاجات المستقبل الواعد لشبابنا ولأمتنا العربية.
أولا: إنَّه، وممَّا لا شكّ فيه، ابتداءً ومنطلقاً، أنّه من واجب شبابنا العربي وحقه أن يستعيد إيمانه بعروبته التي عرَّفها مؤتمر القمة العربية في الرياض عام 2007 أحسنَ تعريف، بعدما شوّهتها على مدى عقود ممارساتٌ سلطوية وإسقاطاتٌ إيديولوجية ونزعاتٌ محورية. إذْ قال إعلان الرياض: “إنَّ العروبة ليست مفهوماً عرقياً عنصرياً، بل هي هوية ثقافية موحِّدة تلعب اللغة العربية دور المعبر عنها والحافظ لتراثها، وإطارٌ حضاري مشترك قائم على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، يثريه التنوع والتعدد والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى، ومواكبةُ التطورات العلمية والتقنية المتسارعة دون الذوبان أو التفتت أو فقدان التمايز”.
ومن وحي هذا التعريف، وبلحاظِ الواقع العربي الراهن آنذاك، قررت القمة العربية العمل على: “نشر ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح، ورفض كل أشكال الإرهاب والغلوّ والتطرف، وجميع التوجهات العنصرية وحملات الكراهية والتشويه، ومحاولات التشكيك في قيمنا الإنسانية أو المساس بالمعتقدات والمقدسات الدينية. والتحذير من توظيف التعددية والمذهبية والطائفية لأغراض سياسية تستهدف تجزئة الأمة وتقسيم دولها وشعوبها، وإشعال الفتن والصراعات الأهلية المدمّرة فيها” (انتهى الاقتباس).
إنها- أيها الأبناءُ الشباب- العروبة الحضارية التي تضمُّ كلَّ أبنائها من مختلف الأديان والأعراق، والتي قال عنها بيانُ البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان أوائل التسعينيات من القرن الماضي: “إنها حضارةُ الوَجْه، أي حضارة التَّلاقي الحرّ والتحاور المباشر”.
وفي اعتقادي أيضاً أنَّ إشارة “إعلان الرياض” إلى مكانة اللغة العربية في تعريف العروبة تستحضر الحديث النبوي الشريف: “ليست العربيةٌ لأحدكم بأبٍ ولا أمّ.. العربيُّ مَنْ تكلّم العربية”.
ثانيا: ومن منطلق هذا الإيمان بالعروبة، يمكن أن تتمكن دولنا العربية، وعلى قاعدة ميثاق العمل العربي المشترك، من التعاون والتكامل فيما بينها، للحفاظ على حقوق وتطلعات أبنائها وأوطانها، وتنمية وتطوير هذه الحقوق والإمكانات، وأن تحقق في الوقت ذاته السلام العادل والدائم لمنطقتنا العربية، وبالتالي أن تُحْرِزَ الترقّي المنشود بين الأمم.
ثالثا: الشباب العربي هم بيئة العمل الجاد للاستثمار في المستقبل، وهم يمثلون الركيزة الأولى والأساس لتجديد الحياة السياسية في بلدانهم، وهم الرهان الأوثق على المستقبل، وهم عماده وقوته الدافعة والمحركة لإحداث الإصلاح والنهوض في المجتمعات العربية.
رابعا: وبالتالي، فإنّه من حق الشباب العربي أن تكون لديه دول وطنيةٌ ناهضة وقادرة، صاحبة السلطة الحصرية والوحيدة في بلدانها، وأن تكون مدركة بأن التحولات والمتغيرات التي تعصف بمنطقتنا العربية تقتضي تكوين موقف عربي مشترك على الأهداف المصيرية في وجه المطامع المتكاثرة من حولنا، ولاسيما في هذه المرحلة المفصليَّة، والمسكونةِ بتدافُع أنظمة المصالح في منطقتنا والعالم.
خامسا: ومن حق الشباب العربي أن يطمئنوا إلى أنهم سيحصلون من خلال دولهم الوطنية على حقوقهم العادلة والمتكافئة دون منّة من أحد، وأنْ يكونوا قادرين على المشاركة الفعالة في العمل السياسي والعمل النهضوي في أوطانهم. لقد كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يردّد القول بأن الناس ينشئون دُوَلاً لصَون مصالحهم الوطنية، وتحسين حياتهم في مجتمعاتهم، وانتظام علاقاتهم تحت سقف القانون، ولاسيما أن صَون المصالح الوطنية هو مهمةُ الدولة الأولى. وهي الدولة التي ينبغي عليها تحقيق مقتضيات المواطنة لجميع مواطنيها، وتصون الحريات المدنية، وتحرص على احترام حقوق الإنسان.
سادسا: ومن حق شبابنا العربي أن يكون لديهم في أوطانهم اقتصاد حديث متطور ومتنوع ومنتج ونام، تتعزز فيه التنمية المناطقية وتنخفض فيه الفروق بين الأغنياء والفقراء، وحيث تحرص الدولة على تعزيز الفرص المتكافئة لجميع المواطنين.
سابعا: ومن حقهم الحصول على الخدمات الصحية والخدمات العامة ذات الكفاية، وأن تكون لديهم بنى تحتية غير منقوصة وغير مهملة، مع احترام كامل لمقتضيات الحفاظ على البيئة والتنظيم المُدُني.
ثامنا: ومن حقهم أن تكون لهم أنظمة تعليمية حديثة، تطور معارفهم وكفاءاتهم ومهاراتهم واحترافهم، وتواكب متطلبات عصر جديد واقتصاد معرفي ورقمي حديث يتيح لهم أن يشاركوا بكفاءة في أسواق العمل الجديدة المجزية لهم ولأوطانهم، وبما يحفزهم على التقدم في مسارات التعلم المستمر.
تاسعا: إن من حق الشباب العربي أن تكون لديهم الفرصة لتحقيق التميّز في وطنهم علماً وإنجازاً وإبداعاً، انطلاقاً من الإيمان بأنّ القاعدة الحقيقية للتقدم على مسارات التميّز إنما تكون بإعادة الاعتبار والاحترام للكفاءة والجدارة في تولي المسؤوليات العامة، سواء كان في التعيين أو الترقية، والمحاسبة المؤسساتية على أساس الأداء.
عاشرا: من حقهم أن يحلموا بدول وطنية تحترمهم وتحميهم وتؤمن لهم الأمن والأمان والاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي، وتحرص على أن تكون مُحَوْكَمة في إدارتها للقضايا الوطنية والسياسية والاقتصادية والتنموية، وأن تستمر متمسكة بنهج الإصلاح الحقيقي والمنفتح على الجديد والمتقدم والمفيد، ومتصدية لعَوامِل الوهن جرَّاء الاستعصاء على الإصلاح.
حادي عشر: ومن حقهم أن يقتفوا أثر مجموعات اقتصادية في أنحاء مختلفة من العالم، استطاعت أن تبني تجمعات اقتصادية تكاملية تقوم على تنمية وتعزيز المصالح المشتركة، بما يعود بالفائدة على جميع الأقطار العربية، وبما يحفظ لها استقلالها وتمايزها، ويحقق المنافع المشتركة في الاقتصادات العربية ولصالح جميع المواطنين.
ثاني عشر: إن من حق الشباب العربي على جميع المعنيين، حكوماتٍ ومؤسسات وهيئات مدنية ودينية وسياسية، السعي من أجل استعادة السَّكينة في التديُّن بالدين. ذلك أن التطرُّف، من هنا وهناك وهنالك، قد بلغَ أزْمتَه الكبرى.. وأَزَّمنا في الوقت ذاته!
ثالث عشر: إن من حق الشباب العربي بل ومن واجبهم دعم كل الجهود اللازمة لبناء العلاقات الصحيَّة والطبيعيَّة بين الدول العربية ومع العالم من حولهم. ذلك أنَّ السلامَ والاستقرارَ والتنمية لا يمكن أن يتمَّ داخل أسوارٍ مغلقة في عالمٍ مُعَوْلم تحكمه قاعدةُ “الاعتماد المتبادَل”، ولا يمكن أن يقوم على الخوف من العالم ولا على تخويف العالم منا.
رابع عشر: بيد أنّ الحقوق الوطنية تقابلها الواجبات الوطنية. فكما أنّه من حق الشباب العربي المطالبة والحصول على حقوقهم الأساسية وحقهم بالمشاركة في إدارة شؤون بلدانهم، فإنَّ من واجبهم أن لا ينسوا مسألة أساسية؛ وهي أنّ هذه الحقوق تصبح مستحقة لهم من خلال الاضطلاع بمسؤولية الواجب الوطني الذي لا يمكن تخطيه أو التعمية عليه، وأن يدركوا أن لدولهم حقوقاً عليهم في أن يؤدوا واجباتهم تجاهها كمواطنين ومُكلَّفين.
ويكون ذلك من خلال احترام الدساتير والقوانين والأنظمة المرعيَّة الإجراء في بلدانهم، وأن يقوموا بما يمليه عليهم الانتماء للوطن والمواطنة، على قاعدة قبول الآخر المختلف واحترامه، في متَّحدٍ مجتمعي تعدّدي، يصونُ الخصوصيات بالعام، ويقوّي العام بالخصوصيات المنضبطة، ويؤمِّن الديمقراطية التشاركية، بعيداً عن نزعات الاستقواء والغلبة. وبذلك يكون التعددُ والتنوع مصدرَ ثراء، لا ثقوباً تنفذ منها الفتنة.
كذلك، فإنّ الحصول على هذه الحقوق يقتضي منهم بذل الجهد المثابر والإيمان العميق والالتزام الكامل بثقافة الإنتاج والإنجاز والإبداع والتميز والمبادرة والالتزام بأخلاقيات العمل والانضباط، وبهذا تكون الحقوق مستحقة بموجب ما يسمى العقد الاجتماعي.
خامس عشر: ما تقدّم يقتضي إدراك حقيقة أساسية؛ وهي أنه ليس هناك بدائل عن الرؤية الوطنية المستنيرة والمسار المتبصّر المتأني، والإصرار على التعليم النَّوْعي المتطور، والحرص على أخلاقيات العمل الوطني والإنساني في الاداء والسلوك. وهذا، لَعَمْري، مخالفٌ لمقولة: “الغاية تبرّر الوسيلة”. إذْ إنَّ الغاية الشريفة تقتضي استخدام الوسائل الشريفة والمشروعة.
سادس عشر: أخيراً وليس آخراً، أقول بأنَّه لا وصفات سريعة وحلول سحرية لتحقيق تلك الأحلام المشروعة. إذْ إنَّ لتحقيق النهوض مفاتيح، ولا يكفي وجود واستعمال مفتاح واحد، بل من الواجب أن تتضافر أدوار مجموعة من المفاتيح التي يجب استعمالها في آنٍ واحد، وفي طليعتها المفتاحُ الأساس، ألاّ وهو الإيمان والإصرار والتزامُ إرادةِ الإصلاح بأشكاله كافة من أجل تحقيق النهوض.
إخوتي الشباب العربي، لم أكُنْ بتلك الكلمات القليلة أُعَرِّفكم على حقوقكم وواجباتكم المستحقَّة، وإنما أُنادي بها معكم.