رأى التحرير
لم يكن إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن تنحيه عن الاستمرار في السباق الانتخابي لرئاسة الولايات المتحدة لصالح نائبته كاملا هاريس أمرا مفاجئا، فقد سبق القرار عدة أشهر من ضغوط تعرض لها بايدن، وتشكيكات في قدرته البدنية والذهنية لمنافسة مرشح عنيد مثل دونالد ترامب، فضلا عن القيام بأعباء فترة رئاسية جديدة، بلغت هذه الضغوط حدها الأقصى بعد الأداء الهزيل لبايدن في المناظرة الرئاسية الأولى أمام ترامب في يونيو الماضي، على الرغم من المجهود المضني الذي بذلته حملته الانتخابية وأفراد أسرته لعدة أيام قبل المناظرة بهدف تحضير الرجل لأداء مقنع لناخبيه، وهو مالم يحدث.
فماهي حظوظ كل من المرشحين، بعد هذه التطورات، للوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة؟ وماذا تحمل نتائج الانتخابات من تأثيرات مباشرة على ديناميات السياسة في الشرق الأوسط؟
رأي التحرير
مقارنة لازمة:
في كل الأحوال؛ لا يمكن إغفال النظر عن المقارنة التي تفرض نفسها بين حيوية الانتخابات الأمريكية، وغموض نتائجها حتي اللحظات الأخيرة، وما يبدو فيها من حساسية المرشحين والأحزاب لاستطلاعات رأي الناخبين وتقدير آرائهم كمصدر للشرعية وتأسيس السلطة، مع ما يحدث في انتخابات غالبية الدول العربية من إقصاء وممارسات أمنية وتغييب كامل لإرادة الناخبين، مما يجعل الموسم الانتخابي مجرد موسم لتجديد المبايعة للسلطات الحاكمة أو لتجديد القمع للمعارضين السياسيين.
مجرد مرشح محتمل:
من المبكر اعتبار كاملا هاريس بالفعل مرشحة عن الحزب الديمقراطي، فما حدث لا يعد أكثر من توصية من الرئيس بايدن لمندوبي الحزب باختيار هاريس بديلا عنه. ولا يوجد ما يُلزم المندوبين البالغ عددُهم 3896 الذين صوتوا من قبل لصالح بايدن بالتصويت الآن لصالح هاريس، وهو ما يظل حتى اللحظة الأخيرة يفتح الباب لوجود احتمالات أخرى قد يلجأ لها الحزب، خاصة في ظل وجود آخرين من ذوي الثقل السياسي يدور الحديث حول احتمالية ترشحهم، مثل حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم، وحاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو.
ومع ذلك؛ تبقى فرص كاملا هاريس هي الأعلى، إذا استمرت الميول الانتخابية لمندوبي الحزب كما ظهرت في استطلاعات الرأي الأخيرة، حيث كشف استطلاع أجرته وكالة أسوشيتد برس للمندوبين الديمقراطيين عن أن نحو 3095 مندوباً يؤيدون ترشيح هاريس بديلا لبايدن، وهو عدد كاف لاجتيازها عقبة ترشيح المندوبين.
محفزات الفوز والخسارة:
تحظى كاملا هاريس – في حال أصبحت مرشحة فعلية – بعدة محفزات لفوزها، منها علاقة زوجها دوج إيمهوف، يهودي الديانة بالمجتمع اليهودي الأمريكي والمانحين اليهود ومنظمات الضغط اليهودية، وهو ما قد يعطيها فرصة لمحاصرة جزء من ثقة اليهود بترامب وتوجهاته فيما يخص إسرائيل والشرق الأوسط، كما تحظى هاريس بدعم الجناح اليساري التقدمي داخل الحزب الديمقراطي نظرا لتبنيها أجندة نسوية في السنوات الأخيرة ودفاعها علنا عن حق الإجهاض وقضايا أخرى جندرية.
في المقابل؛ تواجه كاملا هاريس عقبات جوهرية لا يمكن الاستخفاف بثقلها، أهمها ما يتعلق بأصولها العرقية، فلم ينتخب الأمريكيون منذ تأسيس الدولة رئيسا أسود البشرة سوى الرئيس باراك أوباما، وهذه المرة تجمع المعضلة أمرا آخر، كونها امرأة، مما يزيد من تعقيد فرص فوزها بالنسبة للناخبين المحافظين الذي يعارضون فكرة تولي امرأة لرئاسة الدولة. كما توجه هاريس عقبات أخرى سياسية مثل محاولة خصومها إلحاق سجل فشل الرئيس بايدن في ملفات جوهرية من وجهة نظرهم، مثل ملف الهجرة، بنائبته هاريس، حتى صارت تسمى في الأوساط اليمينية ب”قيصر الغزو – invasion czar” إشارة لتبنيها سياسات متصالحة مع المهاجرين.
من جهته؛ يبدو دونالد ترامب العائد المتحمس لمقعد الرئيس، يتمتع بمحفزات إيجابية أيضا، حيث لا تزال استطلاعات الرأي تشير لتقدمه على هاريس، حيث كشف أحدث استطلاع للرأي لشركة “مورنينغ كونسلت” في 23 يوليو 2024 عن تقدم ترامب بنقطتيْن مئويتيْن على منافسته؛ إذ يؤيده 47% من الأمريكيين مقابل 45% لصالح هاريس.
كما يبدو ترامب مرشحا مثاليا، للمجتمع اليهودي ولليمين الإسرائيلي الحاكم في دولة الاحتلال، إذا يصر ترامب علي استكمال مسيرته في فرض التطبيع ودمج إسرائيل في الشرق الأوسط، كما يتبنى بشكل معلن رؤية نتنياهو لتوسيع الحرب واستدامتها حتى تحقق مطلق أهدافها العسكرية وإعادة الأمن للمجتمع الإسرائيلي. كما يحظى ترامب بثقة الناخبين المحافظين الذي يعارضون سياسات الهجرة الحالية والسياسات اليسارية، فضلا عن صعود أسهم ترامب بعد أدائه في المناظرة الرئاسية مع منافس ضعيف مشتت الانتباه.
هذا المزيج المعقد من محفزات الفوز والخسارة لكلا الطرفين، من المبكر جدا توقع إلى أين يتجه بشكل نهائي، فلا تزال تفاعلات المشهد آخذة في التشكل والتصاعد.
ماذا عن الشرق الأوسط؟
على جانبنا، في الشرق الأوسط الذي يعاني فراغا قياديا استراتيجيا تسبب فيه غياب الإرادة السياسية لغالبية دوله وارتهان قرارها لمحددات خارجية، تنتظر حرب غزة قدوم الرئيس الأمريكي القادم لتحديد مآلاتها، فمن المتوقع أن يستمر نتنياهو في المراوغة ومراوحة المكان مع استمرار العمليات العسكرية بوتيرة متوسطة حتى انتهاء الانتخابات الأمريكية، إذ يراهن نتنياهو على الفوز المحتمل لترامب الذي سيكون داعما لسياسة استدامة الحرب “العسكرية” ضد المقاومة في غزة والضفة، وسياسات تهويد القدس، فضلا عن التطابق في الموقف من إيران واعتبارها تهديدا أمنيا يتفوق علي التهديد الأمني الذي تمثله روسيا بالنسبة للغرب، مما قد يدفع ترامب لتأييد وإسناد خطة توسيع الحرب ضد حلفاء إيران.
في حال تمكن هاريس من الفوز، فإن هذا لن يعني بأي حال تخلي الولايات المتحدة عن التزامها الصارم بأمن إسرائيل، لكن من المتوقع أن تكون أكثر عقلانية في تبني خطط مواجهة المقاومة الفلسطينية وتصفيتها، ولكن بأدوات أقل خشونة وحدة مما يصبو إليه نتنياهو، بما قد يشمل ضغوطا أوسع لوقف الحرب الحالية وإعطاء الفرصة لمسارات أخرى للضغط على المقاومة ماليا وسياسيا وشعبيا.
لا يستطيع الصوت المسلم في الولايات المتحدة إغفال كون هاريس كانت شريكة، بدرجة ما، في الدعم الهائل الذي تلقته إسرائيل من الولايات المتحدة وخاصة في الشهور الأولى للحرب، مما يضع المجتمع المسلم في الولايات المتحدة في حيرة تاريخية، بين التصويت العقابي لإدارة بايدن وبين إعطاء الفرصة لمن هو أكثر تطرفا في دعم إسرائيل من بايدن ليكون رئيسا!
ختاما:
الحقيقة؛ أنه وبصرف النظر عن نتيجة الانتخابات وتأثيراتها على مسار الحرب التي وضعت الشرق الأوسط برمته في مفترق طرق تاريخي، فإن أزمة العرب الوجودية لن تجد حلا إلا باستعادة زمام المبادرة الذاتية للشعوب، والشباب بالأخص، والإصرار على انتزاع حريتهم وإرادتهم السياسية والقدرة علي الفعل والإسناد في مثل هذه اللحظات الفاصلة.