سياسة
“يمكن لليهود الصلاة في جبل الهيكل.. أنا القيادة السياسية، والقيادة تسمح بصلاة اليهود في جبل الهيكل (المسجد الأقصى)، وقد أديت الصلاة هناك الأسبوع الماضي”. هذا ما قاله وزير الأمن القومي في كيان الاحتلال المتطرف إيتمار بن غفير يوم الأربعاء، 24 يونيو/تموز 2024 في مؤتمر بالكنيست حمل عنوان “عودة الإسرائيليين إلى جبل الهيكل”، متعهداً بتغيير “الوضع القائم” في المسجد الأقصى والذي يحظر على اليهود الصلاة هناك.
يرى البعض أن ابن غفير يحاول “إثارة الفوضى” في المنزل المنقسم بشدة والمليء بالأزمات مستغلاً غياب حليفه نتنياهو٬ الذي يقف مُحرجاً من أفعال ابن غفير “الشقية” أثناء زيارته لواشنطن٬ حيث يلقي نتنياهو خطاباً عديم أهمية لدى العديد من المشرعين الأمريكيين الذي قاطعوا خطابه٬ ولذلك أصدر مكتب نتنياهو على الفور بياناً يرد فيه على “الطفل الشقي” ابن غفير ويؤكد أن “سياسة إسرائيل في الإبقاء على الوضع الراهن في المسجد الأقصى لم تتغير ولن تتغير”.
فيما سارع وزير “الدفاع” الإسرائيلي يوآف غالانت بمهاجمة غريمه ابن غفير وقال إنه “يحاول باستمرار تفجير الشرق الأوسط”٬ فيما وصفه أعضاء بالكنيست مثل جلعاد كاريف من حزب العمل٬ بأنه “مهووس بإشعال الحرائق ومهتم بإشعال انتفاضة ثالثة خلال واحدة من أكثر اللحظات حساسية بالنسبة لدولة إسرائيل”.
يقول ابن غفير الذي يحاول حقيقة ليس “خلط الأوراق” أو “إثارة الفوضى” فحسب٬ بل إشعال النيران في قدميه وجلب الويلات على “إسرائيل” نفسها قبل أن يشعلها في الأقصى بهذه التصريحات٬ إن “جبل الهيكل يمر بتغييرات٬ كلنا نفهم ما أتحدث عنه٬ ما يجب أن يقال بهدوء سيتم القيام به بهدوء.. يقولون لي دائماً إن “القيادة السياسية” ضد ذلك٬ لكن أنا القيادة السياسية٬ والقيادة السياسية تقرر أن تسمح لليهود بالصلاة في جبل الهيكل”.
ويريد ابن غفير بخطابه الخطير هذا الإعلان الرسمي عن انتهاء مرحلة التهويد البطيء للقدس٬ وتغيير ما يسمى بـ”الوضع القائم” رسمياً٬ والذي كان يتم بهدوء لعقود٬ وتحديداً منذ احتلال مدينة القدس والمسجد الأقصى عام 1967. فعندما سقطت المدينة المقدسة اعترف الاحتلال ظاهرياً بـ”اتفاق الوضع القائم” تجنباً لتفجير الصراع الديني مع اليهود والنبذ العالمي لدولة الاحتلال٬ التي لم تحترم أي قرارات أو اتفاقات تتعلق بالمدينة المقدسة٬ بل عبثت بها جميعاً ولم تبقي على شيء منها.
وأبسط الأمثلة على ذلك٬ هو التقسيم الزماني للمسجد واقتحامه يومياً وضرب واعتقال المصلين به٬ ومنع العديد من الفئات من دخوله٬ وكذلك إفراغ “الوصاية الهاشمية” على المسجد من مضمونها٬ فجيش الاحتلال هو المتحكم في أوقات الدخول والخروج٬ وهو الذي يغلق البوابات متى شاء٬ وهو الذي يحظر ترميم الأقصى ويعرقله٬ ويعتدي دوماً على حراس الأقصى وموظفي الأوقاف الإسلامية ويعتقلهم ويضغط على الأردن لتغييرهم كلما أراد ذلك.
وعلى مدار سنوات طويلة٬ أجرى الاحتلال العديد من الحفريات التي عاثت فيها ببنى المسجد الأقصى التحتية خراباً، حيث افتتح أنفاقاً أسفل المسجد والبلدة القديمة وحول سور القدس٬ وأقام شبكة أنفاق باتجاه الجدار الجنوبي للمسجد وباحة البراق، مما أدى لتصدع معالم أثرية من المسجد وحتى بيوت جيرانه القديمة٬ وشكّل انهيارات أرضية في بلدة سلوان جنوبي الأقصى على سبيل المثال٬ والتي تكررت كل عام ووصلت ذروتها بين عامي 2017 و 2020.
ولا شك أن ابن غفير يعلن في الوقت ذاته بهذه التصريحات تقويض صلاحيات ما يعرف بـ”الحاخامية الكبرى” في دولة الاحتلال (والمرجعيات اليهودية الأخرى في العالم) وينهي ما يعرف بـ”قيود الهالاخاه” التي تحظر فتواها دخول اليهود للمسجد الأقصى٬ حيث تنص على أنه “لا يجوز الصعود إلى جبل الهيكل في وضعه الحالي قبل أن يتم تطهيره من (نجاسة الموتى)، وأن “على اليهود الانتظار لعودة المسيح المنتظر لفعل ذلك”.
ولا يعتقد ابن غفير وسموترتش ومن على شاكلتهم من أحزاب وقوى “الصهيونية الدينية” الذين يتبعون لمجلس ديني خاص (حاخامات المستوطنات في الضفة الغربية) بأن هناك أي مخالفات أو أسباب تمنع اليهود من دخول “جبل الهيكل” (المسجد الأقصى)٬ بل هم يؤمنون أن زيارة المكان لإقامة شعائر الصلاة اليهودية “واجب ديني” على كل يهودي اليوم٬ لأن نزول المسيح المخلص “تأخر” وبالتالي يجب “تسريع نزوله” ذلك بالدخول لـ”الهيكل” وإقامة كافة الطقوس والشعائر اليهودية هناك.
ولذلك٬ حذر وزير الداخلية في كيان الاحتلال موشيه أربيل (من حزب شاس) من خطاب ابن غفير، ليس لعدم طمعه هو الآخر بالمسجد الأقصى وسلبه من المسلمين٬ بل لأنه يخشى أن ينهي ابن غفير “المجلس الحاخامي” الرئيسي في إسرائيل٬ الذي اتفق كبار الحاخامات فيه بالإجماع بأنه “يجب أن لا يجرؤ أحد على دخول منطقة جبل الهيكل حتى وصول المسيح”٬ كما ذكرنا.
بالتالي فإن تصريحات ابن غفير تعني بالنسبة لتياره المتطرف الآن “إقامة الهيكل” ولو معنوياً٬ وعدم الحديث بعد الآن عن ما يعرف بـ”الوضع القائم” في المسجد الأقصى٬ وأكد إيتمار بن غفير ذلك في خطابه بالكنيست الأربعاء بالقول: “لا يوجد سبب لعدم فتح جبل الهيكل 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، تعالوا يوم السبت، يجب أن تكون جميع مناطق جبل الهيكل مفتوحة أمام اليهود”.
ولا شك أن معارضة غالانت وغيره من أعضاء الكنيست والأحزاب الإسرائيلية لما يقوله ابن غفير ليست من باب الحرص على قدسية وإسلامية المسجد الأقصى٬ أو حتى الحرص على مشاعر 2 مليار مسلم حول العالم تركوا أقصاهم أسيراً لعقود طويلة٬ بل لأنهم مراوغون ولا يفضلون غوغائية ابن غفير٬ حيث يخشون من اندلاع النيران في إسرائيل نفسها٬ في ظل أصعب حرب تخوضها الدولة وصراع غير مسبوق يهدد استمرارية الكيان، عنوانه “طوفان الأقصى” منذ السابع من أكتوبر الماضي.
ويردد في العلن كل من غالانت ونتنياهو غيرهم ممن يهاجمون ابن غفير بأنهم “يعارضون فكرة تغيير الوضع القائم في القدس”٬ لكن هؤلاء يغيّرون كل يوم بأيديهم “الوضع القائم” المزعوم٬ لكن دون الإعلان رسمياً عن ذلك كما يفعل ابن غفير وتياره. فهم يرون أن إسرائيل تخوض صراعاً طويل المدى مع الفلسطينيين ويجب إدارته من خلال التحكم بالقدس وإخضاع المسجد الأقصى لسيطرتهم، وهو ما قد يستدعي “فرض حقائق” على أرض الواقع من خلال إدارة إسرائيل للحرم القدسي والتحكم بمن يدخل ويخرج منه٬ واستمرار التلاعب بالفلسطينيين والعرب بملهاة “الوضع القائم”.
ويرى هؤلاء أن هذا الأسلوب سيقود في النهاية إلى تسليم الفلسطينيين والعرب والمسلمين بحق اليهود في الصلاة في المسجد الأقصى وتقسيمه زمانياً ومكانياً مما يمهد الطريق بشكل حاسم لاعتراف الجميع بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، لأن إنهاء الصراع على القدس وحسمه بهذا الشكل سيعني بالضرورة إنهاء الصراع مع “إسرائيل” في المنطقة والتمهيد لاستقرارها الأبدي٬ وبناء مشاريع “التنمية” العابرة للإقليم٬ الذي سيستسلم لفكرة التطبيع الأبدي مع وجودها.
لذلك لا ينخدع البعض فيما يقوله غالانت ونتنياهو وغيرهم من أعضاء الحكومة والكنيست حول “رفض” تغيير الوضع القائم في القدس٬ فـ”الوضع القائم” لم يعد قائماً٬ والقدس تنتهك كل يوم وتقسّم بالفعل٬ وابن غفير يسير في خطوات ثابتة لتحقيق مشروع حاخامات مستوطنات الضفة الغربية (دولة يهودا والسامرة)٬ لإقامة “هيكل مزعوم”٬ وطالما أن هذا التيار المجنون يمسك بزمام الأمور في هذه الدولة٬ فإنه سيقودها حتماً نحو الانهيار. ولكن إلى متى سنظل نحن متفرجين في “دكّة الانتظار”؟!