أسمعُ مذ وعيتُ على العمل العام هذا الخطاب “العجوز” يعاد تدويره في كلّ مناسبة، ليتّهمنا-كشباب- بالتهوّر والصدام والتصعيد، وبالتالي إغلاق النوافذ التي أمكن استغلالها لو أنزلنا سقوفنا قليلاً ولطّفنا خطابنا وتجنّبنا المواجهة التي “نحترفها”، بحسبهم.
ولن أنسى ما حييت مشاهد سابقة من عصر مبارك -الذي تخلّصت منه ثورة يناير، أو تخلّص منه عسكره- على سلالم نقابة الصحفيين أو أمام دار القضاء العالي أو مسجد الفتح برمسيس وأحد المشاركين يكمّمُ فم عمّنا كمال خليل بكفّه حين هتف “يسقط حسني مبارك”، أو آخر يخطف منّي الميجافون حين أهتف ضدّ العسكر(وقت أن كانوا حماة الثورة)، أو ثالث يمزّق لافتة أو رابع يقمع مشتبكٍ في ذات معسكره، وغالبًا ما قام شِقاقٌ بين الطرفين على مرأى العساكر والضبّاط الذي يضربون الكلّ وقت فضّ التظاهرة بلا تمييزٍ بين من هتف بالسقوط أو طالب بالإصلاح.
أقولُ هذا الآن تحديدًا وقد صدّعت رأسي ترّهات الحكمة التي تحاصرني مذ خرجتُ من المعتقل، خاصّةً حين تردِّدُ عليّ “انت اللي مصرّ على التصعيد” “بطل تستفزّهم بهتافاتك وكتاباتك” “ركّز مع الشعر وسيب الشارع شوية”… إلى آخر هذا الحديث الذي أظنّه يُقالُ لكلّ محاولٍ للفعلِ أو القول تثبيطًا له، أو إرضاءًا لهم.
وتشاءُ الأقدار أن أعيد المحاولةَ لنشر ديواني”كيرلي” الذي كُتبت كلّ قصائده في المعتقل، وخرجت كلّها تهريبًا عبر المحامين في الجلسات أو المعتقلين حين خروجهم أو أسرهم في الزيارات،ونشر في 2021م لكنّه لم يبقَ على قيد الحريّة غير ساعة ونصف قبل أن يُصادر ويُمنع من معرض القاهرة للكتاب على يد قوّة أمنيّة مشتركة اقتحمت جناح دار النشر.
وتكرّر المنعُ مع تكرار المحاولة بعد خروجي، لكن بصورة أوقح وأدوات أخطر وأحقر، ليست أمنيّة هذه المرّة تهدد حريّتي والقصائد، إنّما تكفيريّة تحرّض عليّ تحريضًا مباشرًا، تعرّضني للخطر كما عرّضت القصائد للمنع مرّةً أُخرى، حين دُفِعَ طابورٌ من مشايخ القصور والأكاديميّات العسكريّة لإصدار فتاوى تكفّرني وتزندقني وتُمرّقني وتُفسّقني وقصائدي، وتتهمنا بالإساءة للذات الإلهيّة تارةً وازدراء الأديان أُخرى وبالجنونِ والشطط ثالثة.
وقد اتّفق التكفيريّون الرسميّون على ضرورة مصادرة الديوان، ومعاقبة كاتبه، وقال أحدهم بضرورة استتابتي وإن لم أرجع يُحالُ أمري لوليّ الأمر.
أليس هذه صياغات حدّ الردّة التي آخرها القتل؟ ألا يعلم الجهاز الذي دفعهم، والنوافذ التي انفتحت لهم-بالأمر المباشر، كما يعلمون هم أنّ استخدام هذا الخطاب لم يُنتج إلا إرهابًا واعتداءًا وإيذاءًا للمبدع الذي استخدم ضدّه؟ أنسيَ هؤلاء وغيرهم من الغلمان وملك يمين السلطان ما فعلوه مع فرج فوده ونصر حامد أبو زيد وحيدر حيدر وسلمان رشدي ونجيب محفوظ وصولاً لأحمد ناجي وكرم صابر ؟
وإذا لم تكن الدولة هي التي دفعتهم لهذا، كما يروّج البعض-ونحن نعرفُ أنّ هذا سلوك أحد أجهزتها المعتاد- أين هيَ إذًا من هذه الجريمة المركّبة؟ أليس صمتهم عنها دليلٌ عن الرضى إن لم يكن التواطؤ أو التحريك؟
التحريضُ على القتل، هو ما يواجهُ القصيدة في بلادنا المسكينة الآن، والتكفير هو معيار الحكم على المخالفين-لا دينًا ولا شرعًا، إنّما رأيًا وموقفًا سياسيًّا ووطنيًّا، وسحق مساحات التظاهر والاحتجاج في مصر، لم يكن سوى البداية لسحق الحياة ذاتها.
إذ ليس التصعيد أو دعوات الإسقاط أو التحريض على الثورة هو المقصود بالضربات اللامنتهية، إنّما الوجود على أيّة صورة، والحياة بأيّ صياغة، لم تعد السلطة تقبلهُ مالم يكن في حظيرتها الرسميّة وعلى مقاس رسائل “السامسونج” الوضيعة.
ولتنتبهوا- إن كان ثمّة غافل – أنّ السويعات القليلة الماضية اختطفت السلطة صحفيًا معروفًا وأخفته قسريًّا ثم حبسته، واختطفت رسام كاريكاتير ومترجم شهير ومازال مصيره مجهولاً، وكفّرت شاعرًا وديوانه ومنعت ظهورهم، وهذا كلّه تزامنًا مع عودة جلسات “الحوار الوطني” للانعقاد حول قضايا “الحبس الاحتياطي” .
أيّ مهزلةٍ تلك؟ وأيّ استهانة من السلطة للمشاركين في هذه الجلسات؟ ومن الداعشيّ والمتطرّف والإرهابي هنا؟!